التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
-الإنسان

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } «هَلْ»: بمعنى قد؛ قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه «هَلْ» بمعنى قد. قال الفراء: هل تكون جَحْداً، وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تُقَرِّره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثَّوريّ وعِكرمة والسّديّ. وروي عن ٱبن عباس. { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } قال ٱبن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرّت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ٱبن عباس أيضاً في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حَمَإٍ مسنون أربعين سنة، ثم من صَلْصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ٱبن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يُعْرف مقدارُه؛ عن ٱبن عباس أيضاً، حكاه الماورديّ. { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } قال الضحاك عن ٱبن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً، لا يُذكَر ولا يُعرَف، ولا يُدرَى ما ٱسمه ولا ما يراد به، ثم نُفِخ فيه الرُّوح، فصار مذكوراً؛ قاله الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيـى بن سلاّم: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخَلْق وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً. وقيل: ليس هذا الذِّكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم، بل هذا الذِّكر بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: { { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قَدْر عند الخليقة. ثم لما عَرَّف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمَّله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكوراً. قال القُشيريّ: وعلى الجملة ما كان مذكوراً للخلق، وإن كان مذكوراً لله. وحكى محمد ابن الجهم عن الفراء: «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً» قال: كان شيئاً ولم يكن مذكوراً. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مُدَد من الدهر وآدم لم يكن شيئاً يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئاً ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثاً ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيواناً. وقد قيل: «الإنسان» في قوله تعالى: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ } عُنِيَ به الجنس من ذرّية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدّة حمل الإنسان في بطن أمه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }: إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تَمَّت فلا نُبْتَلى. أي ليت التي أتت على آدم لم تكن شيئاً مَذْكُوراً تَمَّت على ذلك، فلا يلد ولا يُبْتَلى أولادُه. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال ليتها تَمَّت.

قوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } أي ٱبن آدم من غير خلاف { مِن نُّطْفَةٍ } أي من ماء يقطُر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:

مالي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْهل أنتِ إِلاَّ نُطْفةٌ في شَنَّهْ

وجمعها: نَطف ونِطَاف. { أَمْشَاجٍ }: أخلاط. واحدها: مِشْج ومَشِيج، مثل خِدْن وخَدِين؛ قال: رؤبة:

يَطْرحْن كُلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِلَمْ يُكْسَ جِلْداً في دَمٍ أَمْشَاجِ

ويقال: مَشَجتُ هذا بهذا أي خلطته، فهو مَمْشوج ومَشِيج؛ مثل مَخْلوط وخَلِيط. وقال المبرّد: واحد الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشِج: إذا خلط، وهو هنا ٱختلاط النطفة بالدم؛ قال الشَّمَّاخ:

طَوَتْ أَحْشَاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍعلى مَشَج سُلاَلَتُهُ مَهِينُ

وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعَلَقة. ويقال للشيء من هذا إذا خُلط: مَشِيج كقولك خَلِيط، ومَمْشوج كقولك مَخْلوط. وروي عن ٱبن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة؛ قال الهُذليّ:

كَأَنَّ الرِّيشَ والْفُوقَيْنِ مِنْهُخِلاَفَ النَّصْلِ سِيطَ به مَشِيجُ

وعن ٱبن عباس أيضاً قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوّة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعاً؛ ذكره البزار. وروي عن ٱبن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ٱبن عباس: خلق من ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحماً؛ كما قال في سورة «المؤمنون» { { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12] الآية. وقال ٱبن السِّكِّيت: الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: والأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: بُرْمَةٌ أَعشَار وثوبٌ أخلاقٌ. وروي عن أبي أيوب الأنصاريّ: قال "جاء حبر من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا عَلاَ ماء المرأة آنثَتْ وإذا عَلاَ ماءُ الرجل أَذْكَرَتْ فقال الحبر: أشهد أن لا إلٰه إلا الله وأنك رسول الله" . وقد مضى هذا القول مستوفًى في سورة «البقرة». { نَبْتَلِيهِ } أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما ـ نختبره بالخير والشر؛ قاله الكلبي: الثاني ـ نختبر شكره في السَّراء وصبره في الضَّرَّاء؛ قاله الحسن. وقيل: «نَبْتَلِيهِ» نُكلِّفه. وفيه أيضاً وجهان: أحدهما ـ بالعمل بعد الخلق؛ قاله مقاتل. الثاني ـ بالدِّين ليكون مأموراً بالطاعة ومنهيًّا عن المعاصي. وروي عن ٱبن عباس: «نَبْتَلِيهِ»: نصرفه خلقاً بعد خلق؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } لنبتليه، وهي مُقدَّمة معناها التأخير.

قلت: لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخِلْقة. وقيل: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }: يعني جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى، وبصراً يبصر به الهدى.

قوله تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أي بيّنا له وعَرَّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشرّ ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله تعالى: { { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10]. وقال مجاهد: أي بيّنا له السبيل إلى الشَّقاء والسَّعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسّديّ: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أي أيهما فعل فقد بيّنا له. قال الكوفيون: «إِن» ها هنا تكون جزاء و «ما» زائدة أي بيّنا له الطريق إن شَكَر أو كَفَر. وٱختاره الفراء ولم يجزْه البصريون؛ إذ لا تدخل «إِنْ» للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بيّنا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية ٱهتدى وآمن، وإن خذلناه كَفَر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فٱترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا { إِمَّا شَاكِراً } والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدّم في «الفاتحة» وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع ٱجتماعهما في معنى المبالغة؛ نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى، فٱنتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقَلَّ شكره، لكثرة النِّعم عليه وكَثرة كفره وإن قَلّ مع الإحسان إليه. حكاه الماورديّ.