التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
٥
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
٦
-الإنسان

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } الأبرار: أهل الصدق واحدهم بَرٌّ، وهو من ٱمتثل أمر الله تعالى. وقيل: البرّ الموحِّد والأبرار جمع بارّ مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بَرّ مثل نَهْر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البَرَرة، وفلان يَبَرُّ خالقَه وَيَتَبَّرره أي يُطِيعه، والأم بَرّةٌ بولدها. وروى ٱبن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمّاهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بَرُّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقًّا كذلك لولدك عليك حقًّا" . وقال الحسن: البَرّ الذي لا يؤذي الذَّرّ. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدّون حقّ الله ويوفون بالنَّذْر. وفي الحديث: "الأبرار الذين لا يؤذون أحداً" . { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } أي من إناء فيه الشراب. قال ٱبن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسمّ كأساً. قال عمرو بن كُلْثوم:

صَبنْتِ الكأسَ عَنَّا أُمَّ عَمرٍووكان الْكَأْسُ مَجْرَاها الْيَمِينَا

وقال الأصمعيّ: يقال صَبَنْتَ عنّا الهديةَ أو ما كان من معروف تَصبِنُ صَبْنا: بمعنى كَفَفْتَ؛ قاله الجوهري. { كَانَ مِزَاجُهَا } أي شَوْبها وخلطها؛ قال حسّان:

كَأَنَ سَبِيئةً مِن بيْتِ رَأَسٍيكونُ مِزَاجَها عَسلٌ وماءُ

ومنه مِزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. { كَافُوراً } قال ٱبن عباس: هو ٱسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمّى كافوراً. وقال سعيد عن قتادة: تُمزَج لهم بالكافور وتُختَم بالمسك. وقاله مجاهد. وقال عِكرمة: مِزَاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبَرْده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [الكهف: 96] أي كنارٍ. وقال ٱبن كَيْسان: طُيِّب بالمسك والكافور والزنجيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمَّى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: { كَانَ مِزَاجُهَا } «كَانَ» زائدة أي من كأس مِزاجُها كافورٌ. { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } قال الفراء: إن الكافور ٱسم لعين ماء في الجنة؛ فـ «ـعَيْناً» بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في «مِزاجها». وقيل: نصب على المدح؛ كما يُذكَر الرّجلُ فتقول: العاقلَ اللبيبَ؛ أي ذكرتم العاقلَ اللبيبَ فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عيناً. وقال الزجاج: المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضاً: وعاء طلع النخل وكذلك الكُفُرَّي؛ قاله الأصمعيّ.

وأما قول الراعي:

تَكْسُو الْمَفَارِقَ واللَّبَّاتِ ذَا أَرَجٍمِن قُصْبِ مُعْتَلِفِ الكافورِ دَرَّاجِ

فإنّ الظبي الذي يكون منه المسك إنما يَرْعي سُنْبَل الطِّيب فجعله كافوراً. { يَشْرَبُ بِهَا } قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأنّ يشرب بها يَرْوَي بها ويَنْقع؛ وأنشد:

شَرِبْنَ بمِاءِ البحرِ ثم تَرَفَّعتْمَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئيج

قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكلم كلاماً حسناً. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة. وقيل: الباء بدل «مِن» تقديره يشرب منها؛ قاله القتبيّ. { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي يُشقِّقونها شَقًّا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ٱبن أبي نَجيح عن مجاهد { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } يقودونها حيث شاؤوا، وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } والأخرى الزنجبيل والأخريان نَضًّاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله { عَيْناً فِيَها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً } والأخرى التَّسْنيم" ذكره الترمذيّ الحكيم في «نوادر الأصول». وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مِزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للأبرار مِزاج فهو للمقربين صِرف، وما كان للأبرار صِرف فهو لسائر أهل الجنة مِزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقرَّبون: هم الصديقون.