التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً
١
فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً
٢
وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً
٣
فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً
٤
فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً
٥
عُذْراً أَوْ نُذْراً
٦
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ
٧
فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ
٨
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ
٩
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ
١١
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
١٢
لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ
١٣
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ
١٤
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٥
-المرسلات

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبيّ. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إلٰه إلا الله؛ قاله ٱبن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل تُرْسَل بما يُعْرَفون به من المعجزات. وعن ٱبن عباس وٱبن مسعود: إنها الرياح؛ كما قال تعالى: { { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ } [الحجر: 22] وقال: { { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ } [الأعراف: 57]. ومعنى «عُرْفاً» يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس؛ تقول العرب: الناس إلى فلان عُرْفٌ واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من { وَٱلْمُرْسَلاَتِ } أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدراً أي تِباعاً. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعُرْف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و«عرفاً» على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس؛ قاله ٱبن مسعود. وقيل: جاريات؛ قاله الحسن؛ يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول. { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } الرياح بغير اختلاف؛ قاله المهدويّ. وعن ٱبن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحُطَامه؛ كما قال تعالى: { { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً } [الإسراء: 69]. وقيل: العاصفات الملائكة الموكّلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر؛ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عَصُوف أي تعصف براكبها، فتمضي كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ٱبن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته؛ أي تنشر السحاب للغيث. وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضاً: الأمطار؛ لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الإحياء؛ يقال: نشر الله الميّت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السديّ: أنها الملائكة تنشر كتب الله عزّ وجلّ. وروى الضحاك عن ٱبن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد. وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال: «وَالنَّاشِرَاتِ» بالواو؛ لأنه ٱستئناف قسم آخر. { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } الملائكة تنزل بالفرق بين الحقّ والباطل؛ قاله ٱبن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ٱبن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ٱبن إبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدّده. وعن سعيد عن قتادة قال: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } الفرقان، فَرّق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقاله الحسن وٱبن كيسان. وقيل: يعني الرسل فَرَقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بيّنوا ذلك. وقيل: السحابات الماطرة تشبيهاً بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتَنِدّ في الأرض حين تضع، ونوق فَوارِقُ وفُرَّق. وربما شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة؛ قال ذو الرمّة:

أَوْ مُزْنَةٌ فارقٌ يَجْلو غَوارِبَهاتَبَوّجُ الْبَرْقِ والظَّلْمَاءُ عُلْجُومُ

{ فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } الملائكة بإجماع؛ أي تلقى كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام؛ قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي بٱسم الجمع؛ لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم؛ قاله قُطْرب. وقرأ ٱبن عباس «فَالملقيَّات» بالتشديد مع فتح القاف؛ وهو كقوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ } [النمل: 6]. { عُذْراً أَوْ نُذْراً }: أي تلقى الوحي إعذاراً من الله أو إنذاراً إلى خلقه من عذابه؛ قاله الفراء. وروي عن أبي صالح قال: يعني الرسل يُعذرون ويُنذرون. وروى سعيد عن قتادة «عَذْراً» قال: عذراً لله جلّ ثناؤه إلى خلقه، ونَذْراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ٱبن عباس. «عُذْراً» أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة «أَوْ نُذْراً» ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «أَوْ نُذْراً» بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال «عُذْراً» سوى ما رواه الجُعْفِيّ والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ٱبن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التَّيمي وقتادة «عُذْراً وَنُذُراً» بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفاً. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من «ذِكْراً» أي فالملقيات عذراً أو نذراً. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذُر والنذُر بالتثقيل على جمع عاذر وناذر؛ كقوله تعالى: { { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } [النجم: 56] فيكون نصباً على الحال من الإلقاء؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولاً لـ«ـذكراً» أي «فَالْمُلْقِيات» أي تُذَكِّر { عُذْراً أَوْ نُذْراً }. وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عَذير ونَذير. { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } هذا جواب ما تقدم من القسم؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. ثم بيّن وقت وقوعه فقال: { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } أي ذهب ضوءها ومُحِي نورُها كطمس الكتاب؛ يقال: طَمَس الشيء إذا درس وطُمِس فهو مطموس، والريح تطمُس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامساً بمعنى مطموس. { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } أي فُتِحت وشُقَّت؛ ومنه قوله تعالى: { { وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً } [النبأ: 19].وروى الضحاك عن ٱبن عباس قال: فُرجت للطيّ. { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } أي ذهب بها كلها بسرعة؛ يقال: نَسفْتُ الشيءَ وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ٱبن عباس والكلبيّ يقول: سُوِّيت بالأرض، والعرب تقول: فَرَس نَسُوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بِشْر:

نَسُـوفٌ لِلحِـزَام بمرفقيهـا

ونَسَفت الناقةُ الكلأَ: إذا رعته. وقال المبرد: نُسِفت قُلِعت من موضعها؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أَنْسَفت رجلاه. وقيل: النَّسْف تفريق الأجزاء حتى تذروها الرياح. ومنه نسف الطعام؛ لأنه يُحرَّك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التِّبْن. { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم؛ كما قال تعالى: { { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [النساء: 109]. وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفّار مُمْهَلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأوّل أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة، كالطمس ونَسْف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً. وقيل: أُقِّتت وُعِدت وأُجِّلت. وقيل: { أُقِّتَتْ } أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في { أُقِّتَتْ } بدل من الواو؛ قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضُمَّت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة؛ تقول: صلّى القوم إِحْدانا تريد وِحْدانا، ويقولون هذه وُجُوه حسان و أُجُوه. وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: «وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» لأن الضمة غير لازمة. وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد «وُقِّتَتْ» بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرى «أُقِّتَتْ» من قال في وُجُوه أجُوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج «وُقِتَت» بالواو وتخفيف القاف. وهو فُعِلّت من الوقت ومنه «كِتَاباً مَوْقُوتاً». وعن الحسن أيضاً: «وُوِقِتَتْ» بواوين، وهو فُوعِلت من الوقت إيضاً مثل عُوهِدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفاً لجاز. وقرأ يحيـى وأيوب وخالد بن إلياس وسلاَم «أُقِتَتْ» بالهمزة والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف. { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }؟ أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو ٱستفهام على التعظيم. أي { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } أُجِّلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: "إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاماً على رؤوسهم الشمسُ شاخصةً أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل" . { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } أتبع التعظيم تعظيماً؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي عذاب وخزي لمن كذّب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكّذب بشيء عذاباً سوى تكذيبه بشيء آخر، ورُبّ شيء كذّب به هو أعظم جُرْماً من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الردّ على الله، فإنما يقسّم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله: { جَزَآءً وِفَاقاً }. وروي عن النعمان بن بشير قال: وَيْلٌ: وادٍ في جهنم فيه ألوان العذاب. وقاله ٱبن عباس وغيره. قال ٱبن عباس: إذا خَبَت جهنُم أُخذ من جمره فألقى عليها فيأكل بعضها بعضاً. وروي أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُرضت عليّ جهنم فلم أَرَ فيها وادياً أعظم من الويْل" وروي أنه مَجْمَع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وٱنفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما ٱستنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغُسالات من الجيف وماء الحمامات؛ فذكر أن ذلك الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتْناً، ولا أشدّ منه مرارةً، ولا أشدّ سواداً منه؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم وادٍ في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.