التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً
٦
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً
٧
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
٨
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
٩
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً
١٠
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً
١١
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
-النبأ

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً }: دلهم على قدرته على البعث؛ أي قُدْرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمِهاد: الوِطاء والفراش. وقد قال تعالى: { { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [البقرة: 22] وقُرِىء «مَهْداً». ومعناه أنها لهم كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } أي لتسكن ولا تتكَفْأ ولا تميل بأهلها. { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } أي أصنافاً: ذكراً وأنثى. وقيل: ألواناً. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ } «جعلنا» معناه صَيَّرنا؛ ولذلك تعدّت إلى مفعولين. { سُبَاتاً } المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السَّبْت أي يوم الراحة؛ أي قيل لبني إسرائيل: ٱستريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئاً. وأنكر ٱبن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سُبَات. وقيل: أصله التمدّد؛ يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسُبَات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدّد، فسميت الراحة سبتا. وقيل: أصله القُطْع؛ يقال: سَبَتَ شعره سَبْتا: حَلَقه؛ وكأنه إذا نام ٱنقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سَير سَبْت: أي سهل لين؛ قال الشاعر:

وَمطْويةِ الأقرابِ أمّا نهارُهافَسَبْتٌ وأمّا ليلُها فذَمِيلُ

قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً } أي تلبَسكم ظلمته وتغشاكم؛ قاله الطبري. وقال ٱبن جُبير والسُّدي: أي سَكنا لكم. { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } فيه إضمار، أي وقْتَ معاشٍ، أي مُتَصَرَّفاً لِطلب المعاش وهو كل ما يُعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ «ـمعاشا» على هذا ٱسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } أي سبع سموات محكمات؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } أي وقَّاداً وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق؛ لأنها تعدّت لمفعول واحد والوهاج الذي له وَهَج؛ يقال؛ وهَجَ يهِج وَهْجا ووَهَجاً ووَهَجَاناً. ويقال للجوهر إذا تلالأ توهّج. وقال ٱبن عباس: وهَّاجاً منيراً متلألئاً. { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } قال مجاهد وقتادة: والمعصِرات الرياح. وقاله ابن عباس. كأنها تَعْصِر السحاب. وعن ٱبن عباس أيضاً: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصِر بالماء ولما تُمْطر بعد، كالمرأة المُعْصِر التي قددنا حيضُها ولم تحض، قال أبو النجم:

تمشِي الهُوَينَى مائلاً خِمارُهاقد أَعْصَرتْ أوقد دنا إعصارها

(وقال آخر):

فكان مجِني دون من كنت أتقِيثَلاثُ شُخُوصٍ كاعِبان ومُعْصِرُ

وقال آخر:

وذِي أشُرٍ كالأُقْحوانِ يزِينهُذِهابُ الصَّبا والمُعْصِراتُ الرَّوائِحُ

فالرياح تسمى مُعْصرات؛ يقال: أَعْصَرَت الريح تُعْصِر إعصاراً: إذا أثارت العجاج، وهي الإِعصار، والسحب أيضاً تسمى المُعْصِرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضاً: المُعْصِرات السماء، النَّحَّاس: هذه الأقوال صحاح؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر مُعْصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المُعصِرات { مَآءً ثَجَّاجاً } وأصح الأقوال أن المعصرات: السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان (بالمعُصرات) لكان الريح أولى. وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تُعْتَصر بالمطر. وأُعِصر القوم أي أمطِروا؛ ومنه قرأ بعضهم «وفِيه يُعْصِرون» والمعصِر: الجارية أوّل ما أدركت وحاضت؛ يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته؛ قال الراجز:

جارِيةٌ بَسفَوانَ دارهاتمشِي الهُوَيْنَى ساقِطاً خمارُها
قد أَعصَرَتْ أو قد دنا إعصارُها

والجمع: مَعاصِر، ويقال: هي التي قاربت الحيض؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوت الأعرابيّ. قال غيره: والمُعصر السحابة التي حان لها أن تمطر؛ يقال أجن الزرع فهو مُجنّ: أي صار إلى أَن يُجِنّ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرَّد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويُعْتَصر منه شيء بعد شيء، ومنه العَصَر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه، والعُصْرة بالضم أيضاً الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة «يوسف» والحمد لله. وقال أبو زبيد:

صادِياً يستغِيثُ غير مُغاثٍولقدْ كان عُصْرة المنْجودِ

ومنه المُعصِر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها مُعصِر؛ لأنها تُحْبَس في البيت، فيكون البيت لها عَصَرا. وفي قراءة ٱبن عباس وعِكرمة «وأَنزلنا بِالمعصِراتِ». والذي في المصاحف «مِن المعصِراتِ» قال أبيّ بن كعب والحسن وٱبن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: «مِن المعصِراتِ» أي من السموات. «ماء ثَجاجا» صباباً متتابعاً؛ عن ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثَجَجْت دمَه فأنا أَثُجه ثجا، وقد ثج الدم يَثُج ثجوجاً، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعدّ. والثجاج في الآية المنصَبّ. وقال الزجاج: أي الصَّبَّاب، وهو متعدّ كأنه يثج: نفسه أي يَصُبّ، وقال عَبِيد بن الأبرص:

فثَجَّ أعلاه ثم ٱرتجَّ أَسفلُهوضاقَ ذَرْعا بِحَملِ الماءِ مُنْصاحِ

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الحج المبرور فقال: "العَجّ والثَّجّ" فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ٱبن زيد: ثجاجاً كثيراً. والمعنى واحد.

قوله تعالى: { لِّنُخْرِجَ بِهِ } أي بذلك الماء { حَبّاً } كالحنطة والشعير وغير ذلك { وَنَبَاتاً } من الأبّ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. { وَجَنَّاتٍ } أي بساتين { أَلْفَافاً } أي ملتفة بعضها ببعض لتشعّب أغصانها، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: واحد الألفاف لِفٌّ بالكسر، ولُفّ بالضم. ذكره الكسائي؛ قال:

جنة لُفٌّ وعيشٌ مُغْدِقونَدامَى كلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ

وعنه أيضاً وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لَفَّاء ونبت لِفٌّ والجمع لُفٌّ بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللّف ألفافاً. الزمخشري: ولو قيل جمع مُلْتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيهاً. ويقال: شجرة لَفّاء وشجر لُفّ وامرأة لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافاً، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.