التفاسير

< >
عرض

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
٢٩
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
٣٠
-النبأ

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً }: مِفعال من الرَّصَد والرصَد: كل شيء كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رَصَداً، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حُبِس. وعن سُفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قَناطر. وقيل «مِرصاداً» ذات أَرْصاد على النسب، أي ترصد من يمرّ بها. وقال مقاتل: مَحْبِساً. وقيل: طريقاً وممرّاً، فلا سبيل إلى الجنة حتى يَقْطع جهنم. وفي الصّحاح: والمِرصاد: الطريق. وذكر القُشَيريّ: أن المرصاد المكان الذي يَرصُد فيه الواحد العدوّ، نحو المِضمار: الموضع الذي تُضَمَّر فيه الخيل. أي هي معدّة لهم؛ فالمِرصاد بمعنى المحلّ؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماورديّ عن أبي سِنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشيءِ: الراقبُ له؛ تقول: رصدَه يرصدُه رَصْداً ورَصَداً، والترصُّد: الترقب. والمَرْصَد: موضع الرصْد. الأصمعيّ: رَصَدْته أرصُده: ترقبته، وأرْصدته: أعددت له. والكسائي: مثله.

قلت: فجهنم مُعَدّة مترصّدة، مُتفعِّل من الرصْد وهو الترقب؛ أي هي متطلعة لمِن يأتي. والمِرصاد مِفعال من أبنية المبالغة كالمِعطار والمِغيار، فكأنه يكثر من جهنم ٱنتظار الكفار. { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } بدل من قوله: «مِرصادا» والمآب: المرجع، أي مرجعاً يرجعون إليها؛ يقال: آب يَئُوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوًى ومنزلاً. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم.

قوله تعالى: { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حُقُب جاء حُقُب. والحُقُب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحِقْبة بالكسر: السَّنة؛ والجمع حِقَب؛ قال متمم بن نُويرة التميمي:

وكنا كنَدْمانَيْ جَذيمة حِقبةًمِن الدَّهرِ حتى قيل لنْ يتصدّعَا
فلما تفرّقنا كأَنِّي ومالِكاًلِطولِ ٱجتماعٍ لم نبِتْ ليلة معَاً

والحُقُب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية؛ لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحُقُب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامُهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبداً. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب؛ وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العُصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغَسَّاق، فءذا ٱنقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب؛ ولهذا قال: { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً }. و «لابِثِين» ٱسم فاعل من لبِث، ويقويه أن المصدر منه اللَّبْث بالإسكان، كالشُّرْب. وقرأ حمزة والكسائي «لبِثِين» بغير ألف وهو ٱختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان؛ يقال: رجل لابِث ولبِث، مثل طمِع وطامِع، وفرِه وفارِه. ويقال: هو لَبِث بمكان كذا: أي قد صار اللَّبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حَذِر وفَرِق؛ لأن باب فَعِل إنما هو لما يكون خِلْقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك ٱسم الفاعل من لابث. والحُقُبُ: ثمانون سنة في قول ٱبن عمر وٱبن مُحَيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوماً، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا؛ قاله ٱبن عباس. وروى ٱبن عمر هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوماً كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ٱبن عمر أيضاً: الحُقُب: أربعون سنة. السُّدِّيّ: سبعون سنة. وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعاً. بشير بن كعب: ثلثمائة سنة. الحسن: الأحقاب لا يَدرِي أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حُقُب، والحُقُب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألفَ سنة" ذكره المهدويّ. والأوّل الماورديّ. وقال قُطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود. وقال عمر رضي الله عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لا يخرُج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقاباً، الحُقُب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوماً، كلّ يوم ألفُ سنة مما تَعُدُّون؛ فلا يتكلنَّ أحدكم على أنه يخرج من النار" . ذكره الثعلَبيّ. القُرظيّ: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حُقُباً كل حُقُب سبعون خَريفاً، كل خريف سبعمائةِ سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة.

قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطَع العُذْر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى ـ والله أعلم ـ ما ذكرناه أوّلاً؛ أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير ٱنقطاع. وقال ٱبن كَيْسان: معنى { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } لا غاية لها ٱنتهاء، فكأنه قال أبداً. وقال ٱبن زيد ومُقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } يعني أن العدد قد ٱنقطع، والخلود قد حصل.

قلت: وهذا بعيد؛ لأنه خبر، وقد قال تعالى: { { وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [الأعراف: 40] على ما تقدم. هذا في حق الكفار، فأما العُصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل: المعنى «لابِثِين فِيها أحقابا» أي في الأرض، إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في «لا يذوقون فِيها بردا ولا شراباً» لجهنم. وقيل: واحد الأحقاب حُقُب وحِقْبَةً؛ قال:

فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِهَافَأنتَ بِما أَحْدَثْتَهُ بِالمُجَرَّبِ

وقال الكميت:

مَـرّ لهـا بعـد حِقبـةٍ حِقَبُ

قوله تعالى: { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا } أي في الأحقاب { بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره؛ قال الشاعر:

ولو شِئتُ حَرَّمتُ النساءَ سِواكُمُوإِن شِئت لم أَطْعَمُ نُقاخاً ولا بَرْدَا

وقاله مجاهد والسُّدّيّ والكسائيّ والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي؛ وأنشدوا قول الكنديّ:

بَرَدت مَراشفُها عليَّ فصدنِيعنها وعن تقبِيلِها الْبَرْد

يعني النوم. والعرب تقول: مَنع البَرْدُ البَرْد، يعني: أذهب البرد النوم.

قلت: وقد جاء الحديث. "أنه عليه الصلاة والسلام سُئل هل في الجنة نوم. فقال: لا؛ النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها" فكذلك النار؛ وقد قال تعالى: { { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } } [فاطر:36] وقال ٱبن عباس: البَرْدُ: برد الشراب. وعنه أيضاً: البرد النوم: والشراب الماء. وقال الزّجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظِل، ولا نومٍ. فجعل البرد برد كل شيء له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وٱبن زيد: بَرْداً: أي رَوْحاً وراحة؛ قاله الشاعر:

فلا الظلَّ مِن بردِ الضحى تستطيعُهولا الفَيْءَ أوقات العَشِيّ تذوقُ

«لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً» جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب؛ فالأحقاب ظرف زمان، والعامل فيه «لابِثِين» أو «لبِثِين» على تعدية فِعل. { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } ٱستثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلاً منه. والحميم: الماء الحار؛ قاله أبو عبيدة. وقال ٱبن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يُسْقَونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه ٱشتق الحَمّام، ومنه الحُمَّي، ومنه { { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } }: [الواقعة: 42] إنما يراد به النهاية في الحر. والغَسّاق: صديد أهل النار وقَيْحُهم. وقيل الزَّمْهَرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في «ص» القول فيه. { جَزَآءً وِفَاقاً } أي موافقاً لأعمالهم. عن ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما؛ فالوِفاق بمعنى الموافقة كالقِتال بمعنى المقاتلة. و «جزاء» نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم؛ قاله الفَرّاء والأخفش. وقال الفراء أيضاً: هو جمع الوِفق، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ } أي لا يخافون { حِسَاباً } أي محاسبة على أعمالهم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة «كِذّاباً» بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كَذَّب، أي كَذَّبوا تكذيباً كبيراً. قال الفراء: هي لغة يمَانِيَة فصيحة؛ يقولون: كَذَّبت به كِذَّاباً، وخرقت القميص خِرَّاقاً؛ وكل فِعل في وزن (فَعَّلَ) فمصدره فِعَّال مشدد في لغتهم؛ وأنشد بعض الكلابيين:

لقد طالَ ما ثَبَّطْتني عن صاحبتيوعن حِوجٍ قِضَّاؤُها مِن شِفائِتا

وقرأ علي رضي الله عنه «كِذَاباً» بالتخفيف وهو مصدر أيضاً. وقال أبو عليّ: التخفيف والتشديد جميعاً: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:

فصدقتها وكَذَبتُهاوالمرءُ ينفعهُ كِذَابه

أبو الفتح: جاءا جميعاً مصدر كَذَبَ وكَذَّب جميعاً. الزمخشري: «كِذَاباً» بالتخفيف مصدر كَذَب؛ بدليل قوله:

فصدقتُها وكَذَبْتُهاوالمرءُ ينفعهُ كِذَابهْ

وهو مثل قوله: { { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا أَفكَذَبوا كِذَاباً. أو تنصِبه بـ «ـكَذَّبوا»، لأنه يتضمن معنى كَذَبوا؛ لأن كل مُكَذِّب بالحقّ كاذِب؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مُكاذبة. وقرأ ٱبن عمر «كُذَّاباً» بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب؛ قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشريّ. وقد يكون الكُذَّاب: بمعنى الواحد البليغ في الكَذِب، يقال: رجل كُذّاب، كقولك حُسَان وبُخَّال، فيجعله صفة لمصدر «كَذَّبوا» أي تكذيباً كُذَّاباً مفرطاً كذبهُ. وفي الصحاح: وقوله تعالى: { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } وهو أحد مصادر المشدّد؛ لأن مصدره قد يجيء على (تفعيل) مثل التكليم وعلى (فِعَّال) كِذَّابٍ وعلى (تفعِلة) مثل توصِية، وعلى (مُفَعَّلٍ)؛ «ومَزَّقْناهم كلَّ مُمَزَّقٍ». { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } «كلَّ» نصب بإضمار فعل يدل عليه «أحصيناه» أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السَّمَّال «وكلُّ شيءٍ» بالرفع على الابتداء. «كِتاباً» نصب على المصدر؛ لأن معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتاباً. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كُتِب كان أبعد من النسيان. وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل: أراد ما كُتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكَّلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة؛ دليله قوله تعالى: { { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ } [الانفطار: 10-11]. { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } "قال أبو بَرْزة: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً }" أي « { كلما نضِجَتْ جُلودُهْمَ بَدَّلناهم جلوداً غيرَها } » [النساء: 56] و « { كلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97].