التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً
١
وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً
٢
وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً
٣
فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً
٤
فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
٥
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ
٦
تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ
٧
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ
٨
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ
٩
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ
١٠
أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً
١١
قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ
١٢
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ
١٣
فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ
١٤
-النازعات

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً }: أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، على أن القيامة حقٌّ. و «النازعاتِ»: الملائكة التي تنزِع أرواحَ الكفار؛ قاله عليّ رضي الله عنه، وكذا قال ابن مسعود وٱبن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تَنْزِع نفوس بني آدم. قال ٱبن مسعود: يريد أنفسَ الكُفار يَنْزِعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نَزْعاً كالسَّفُّود يُنزَع من الصُّوف الرَّطْب، ثم يغرِقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزِعها؛ فهذا عمله بالكفار. وقاله ٱبن عباس. وقال سعيد بن جبير: نُزِعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم حُرِقت؛ ثم قُذِف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرَق. وقال السُّدِّيّ: و «النازِعاتِ» هي النفوس حين تَغْرَق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزِع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجومُ تنزِع من أفق إلى أفق؛ أي تذهب، من قولهم: نَزَع إليه أي ذهب، أو من قولهم: نَزَعَت الخيل أي جرت. { غَرْقاً } أي إنها تغرقَ وتغيب وتطلُع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عُبيدة وٱبن كَيسان والأخفش. وقيل: النازعات القِسِيّ تنزِع بالسّهام؛ قاله عطاء وعِكْرمة. و «غَرْقا» بمعنى إغراقاً؛ وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المدّ، حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي ٱستوفى مدّها، وذلك بأن تنتهي إلى العَقَب الذي عند النصل الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة: «غِرقِىء». وقيل: هم الغُزاة الرُّماة.

قلت: هو والذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقِسِيّ فالمراد النازعون بها تعظيماً لها؛ وهو مثل قوله تعالى: { { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [العاديات: 1] والله أعلم. وأراد بالإغراق: المبالغة في النزع وهو سائغ في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزِع من الكلأ وتنفر. حكاه يحيى بن سلام. ومعنى «غرقا» أي إبعاداً في النزع.

قوله تعالى: { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } قال ٱبن عباس: يعني الملائكة تنِشط نفس المؤمن، فتقبضها كما يُنْشَط العِقال من يد البعير: إذا حُلَّ عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا أُنِشطت وكأنما أُنِشط من عِقال. ورَبْطها نَشْطُها والرابط الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نَشطْته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت مُنْشِط. وعن ٱبن عباس أيضاً: هي أنفس المؤمنين عند الموت تَنْشَط للخروج؛ وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت إلا وتُعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعدّ الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نِشطَه أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضاً قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنْشط كما ينشَط العقب، الذي يعقب به السهم. والعقَب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عَقَبة؛ تقول منه: عَقَبَ السهم والقدح والقوس عَقْباً: إذا لوى شيئاً منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة: عقدة يسهل ٱنحلالها إذا جِذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت الحبل أَنِشطه نَشْطاً: عقدته بأنشوطة، وأَنشطته أي حللته، وأَنشطْت الحبل أي مددته حتى ينحلّ. وقال الفراء: أُنِشط العقال أي حُلّ، ونُشِط: أي رَبط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأُنشوطة وأُنشوطتين أي أوثقته، وأُنشطت العِقال: أي مددت أُنشوطته فٱنحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أَنشط، لغتان بمعنى؛ وعليه يصح قول ٱبن عباس المذكور أوّلاً. وعنه أيضاً: الناشطات الملائكة لنشاطها، تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضاً وعن عليّ رضي الله عنهما: هي الملائكة تنِشط أرواح الكفار، ما بين الجلد والأظفار، حتى تخرجها من أجوافهم نَشْطاً بالكَرْب والغمّ، كما تَنْشِط الصوف من سَفُّود الحديد، وهي من النَّشْط بمعنى الجذب؛ يقال: نَشَطْت الدلو أَنِشطُها بالكسر، وأَنشُطها بالضم: أي نزعتها. قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نَشوط؛ قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تُنْشَط كثيراً. وقال مجاهد: هو الموت يَنْشِط نفس الإنسان. السُّدي: هي النفوس حين تنِشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغُزاة أو أنفسهم، تنزع القِسِيّ بإغراق السهام، وهي التي تَنِشْط الأوهاق. عِكرمة وعطاء: هي الأوهاق تَنْشِط السهام. وعن عطاء أيضاً وقتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنِشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. «والناشِطاتِ نشطا» يعني النجوم من بُرْج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنِشط بصاحبها؛ قال هِميان بن قُحافة:

أَمْسَت همومِي تنِشط المناشِطَاالشامَ بِي طوراً وطوراً واسِطَا

أبو عبيدة وعطاء أيضاً: الناشطات: هي الوحش حين تنِشطُ من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنِشطُ الإنسان من بلد إلى بلد؛ وأنشد قول هِميان:

أمسـت همومـي... البيت

وقيل: { وَٱلنَّازِعَاتِ } للكافرين { وَٱلنَّاشِطَاتِ } للمؤمنين، فالملائكة يجذبون رُوح المؤمن برفق، والنزع جذب بشدة، والنشط جذب بِرِفق. وقيل: هما جميعاً للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.

قوله تعالى: { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } قال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبَح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين، كالذي يسبح في الماء، فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع، يُسلونها سَلاًّ رفيقاً بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله؛ كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضاً: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضاً: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة؛ قال عنترة:

والخيلُ تعلَمُ حين تَسْبَحُ في حِياض الموت سَبْحا

وقال ٱمرؤ القيس:

مِسَحَّ إذا ما السابحاتُ على الوَنَىأَثَرْنَ غُباراً بالكَديد المُرَكَّلِ

قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر؛ قال الله تعالى: { { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } }. [الأنبياء: 33] عطاء: هي السُّفن تسبح في الماء. ٱبن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.

قوله تعالى: { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } قال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضاً وأبي رَوْق: هي الملائكة سبقت ٱبن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضاً: الموت يسبق الإنسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ٱبن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقْبضونها وقد عاينِت السرور، شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحوه عن الربيع، قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار؛ قاله الماوردي. وقال الجُرجانيّ: ذكر «فالسابقات» بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها؛ أي واللائي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب؛ فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب، ولو قلت: قام وذهب، لم يكن القيام سبباً للذهاب.

قوله تعالى: { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } قال القُشَيريّ: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة؛ قاله الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن مَعْدان عن مُعاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمرر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلّب الأحوال. وحكى هذا القول أيضاً القشيري في تفسيره، وأن الله تعالى علّق كثيراً من تدبير أمر العالم بحركات النجوم، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله، كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبِّرات الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله؛ قاله ٱبن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك؛ كما قال عز وجل: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193] وكما قال تعالى: { { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } [البقرة: 97] يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي أنزله. وروى عطاء عن ٱبن عباس: { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً }: الملائكة وُكِّلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبد الرحمن بن ساباطٍ: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة؛ جبريل وميكائيل وملك الموت وٱسمه عزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقَطْر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر، وأما إسرافيل فهو يتنزل بالأمر عليهم، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسائة عام. وقيل: أي وُكّلوا بأمور عرَّفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر، كأنه قال: والنازِعات وكذا وكذا لَتُبعَثُنّ ولتحاسَبُن. أضمر لمعرفة السامعين بالمعنى؛ قاله الفراء. ويدل عليه قوله تعالى: { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } ألست ترى أنه كالجواب لقولهم: «أئِذا كنا عِظاما نَخِرةً» نُبْعَث؟ فاكتفي بقوله: «ائِذا كنا عِظاماً نخِرةً»؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } وهذا ٱختيار التِّرمذي ابن عليّ. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون «لعِبرة لمِن يخشى» ولكنّ وَقْع القسم على ما في السورة مذكوراً ظاهراً بارزاً أَحْرى وأقمن من أن يؤتى بشيء ليس بمذكور فيما قال ٱبن الأنباريّ: وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل: جواب القسم «هل أتاك حدِيث موسى» لأن المعنى قد أتاك. وقيل: الجواب { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } على تقدير ليَوم ترجُف، فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره يوم ترجُف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقاً. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ٱبن الأنباريّ: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يُفْتح بها الكلام، والأوّل الوجْه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجفّ، وأبصارهم تخشع، فانتصاب «يومَ ترجُف الراجفة» على هذا المعنى، ولكن لم يقع عليه. قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجُف. وقيل: ٱنتصب بإضمار ٱذكر. و «ترجُف» أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبد الرحمن بن زيد؛ قال: هي الأرض، والرادِفة الساعة. مجاهد: الراجفة الزلزلة { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } الصيْحة. وعنه أيضاً وٱبن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحي كل شيء بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينهما أربعون سنة" وقال مجاهد أيضاً: الرادفة حين تنشق السماء وتُحمل الأرضُ والجبال فتدك دكة واحدة، وذلك بعد الزلزلة. وقيل: «الراجفة تَحرُّك الأرض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأَرَضين». فالله أعلم. وقد مضى في آخر «النمل» ما فيه كفاية في النفخ في الصور. وأصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى: { { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ } [المزمل: 14] وليست الرجفة ها هنا من الحركة فقط، بل من قولهم: رجَف الرعد يرجُف رَجْفاً ورَجيفاً: أي أظهر الصوتَ والحركةَ، ومنه سميت الأراجيف، لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس فيها؛ قال:

أبِالأراجِيف يابن اللومِ تُوعِدنِيوفِي الأَرَاجِيف خِلتُ اللؤمَ والخوَرَا

وعن أُبيّ بن كعب. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: يٰأيها الناس ٱذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه" . { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي خائفة وجلة؛ قاله ٱبن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السُّدِّي: زائلة عن أماكنها. نظيره { { إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ } }. [غافر: 18] وقال المؤرِّخ: قلقة مُسْتَوْفِزة، مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار؛ يقال وجَفَ القلب يجِف وجِيفا إذا خَفَق، كما يقال: وجَب يَجِب وَجيبا، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو، والإيجاف حمل الدابة على السير السريع، قال:

بُدِّلْنَ بعد جهرةٍ صَرِيفَاوبعد طولِ النَّفَسِ الوجِيفا

و«قلوب» رفع بالابتداء و «واجِفة» صفتها. و { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } خبرها؛ مثل قوله { { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } [البقرة: 221] ومعنى «خاشِعة» منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره: { { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [القلم: 43] والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: { { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [الإسراء: 49] يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من حيث جاء؛ قاله قتادة. وأنشد ٱبن الأعرابي:

أحافِرةً على صَلَع وشَيْبٍمَعَاذ اللَّهِ مِن سَفَهٍ وعارِ

يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغَزَل والصِّبا بعد أن شِبت وصَلِعت! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقدُ عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أوّل كلمة. ويقال: ٱلتقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أوّل ما ٱلتقوا. وقيل: الحافرة العاجلة؛ أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:

آليتُ لا أَنساكُمُ فٱعَلُمواحَتَّى يُردَّ الناسُ في الحافِرهْ

وقيل: الحافرة: الأرض التي تُحْفَر فيها قبورُهم، فهي بمعنى المحفورة؛ كقوله تعالى: { { مَّآءٍ دَافِقٍ } [الطارق: 6] و « { عِيشةٍ راضِيةٍ } » [الحاقة: 21] والمعنى أئنا لمردودون في قبورنا أَحْياء. قاله مجاهد والخليل والفرّاء. وقيل: سميت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقرّ الحوافر، كما سميت القدم أرضاً؛ لأنها على الأرض. والمعنى أئنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشِي على أقدامنا. وقال ٱبن زيد: الحافرة: النار، وقرأ { تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ }. وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي ٱسم من أسماء النار. وقال ٱبن عباس: الحافِرة في كلام العرب: الدنيا. وقرأ أبو حَيْوة: «الحَفِرِة» بغير ألف، مقصور من الحافر. وقيل: الحفِرة: الأرض المنتنة بأجساد موتاها؛ من قولهم: حَفِرت أسنانُه، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حَفَر، وقد حَفَرت تحفِر حَفْرا، مثل كسر يكسِر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حَفَر بالتحريك. وقد حفِرت مثال تعِب تعبا، وهي أردا اللغتين؛ قاله في الصحاح. { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } أي بالية متفتتِّةً. يقال: نخِرَ العظم بالكسر: أي بلِى وتفتت؛ يقال: عظام نخِرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة، وٱختاره أبو عُبيد؛ لأن الآثار التي تذكر فيها العظام، نظرنا فيها فرأينا نخِرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وٱبنه عبد الله وٱبن عباس وٱبن مسعود وٱبن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر «ناخِرة» بألف، وٱختاره الفرّاء والطَبريّ وأبو معاذ النحويّ؛ لِوِفاق رؤوس الآي. وفي الصحاح: والناخِر من العظام التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نَخِير. ويقال: ما بها ناخر، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهليّ. وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي لم تبل ولا بدّ أن تنخر. وقيل: الناخر المُجَوَّفة. وقيل: هما لغتان بمعنى؛ كذلك تقول العرب: نخِر الشيء فهو نخِر وناخِر؛ كقولهم: طمِع فهو طمِع وطامِع، وحذِرٌ وحاذِر، وبخِلٌ وباخِل، رفَرِه وفارِه؛ قال الشاعر:

يظَلّ بِها الشيخُ الذِي كان بادِنايَدِب على عُوجٍ له نَخِراتِ

عُوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالألف: بالِية؛ ونخِرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها، على عكس الأوّل؛ قال:

مِـن بعـدِ ما صِـرتُ عِظامـا ناخِـرهْ

وقال بعضهم: الناخرة: التي أُكِلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة؛ كما قال تعالى: { { عِظَاماً وَرُفَاتاً } [الإسراء: 49] ونُخْرة الريح بالضم: شدّة هبوبها. والنُّخْرة أيضاً والنُّخَرة مثال الهُمَزِة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير؛ يقال: هشم نُخْرَته: أي أنفه. { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } أي رَجْعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائبه؛ قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس: «خاسِرة» على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خُسران. والمعنى أهلها خاسرون؛ كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كَرَّة تقتضي المصير إلى النار. وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحْشَرَنّ بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار. والكر: الرجوع؛ يقال: كره، وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة، والجمع الكرات. { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال: «فإنما هِي زَجْرة واحدة». ورَوى الضحاك عن ٱبن عباس قال: نفخة واحدة { فَإِذَا هُم } أي الخلائق أجمعون { بِٱلسَّاهِرَةِ } أي على وجه الأرض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفرّاء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نَوم الحيوان وسهرهم. والعرب تسمى الفلاة ووجه الأرض ساهِرة، بمعنى ذاتِ سَهَر؛ لأنه يُسْهَر فيها خوفاً منها، فوصفها بصفة ما فيها؛ وٱستدل ٱبن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصَّلْت:

وفيها لحمُ ساهِرةٍ وبحرٌوما فاهوا بِهِ لَهمُ مُقِيمُ

وقال آخر يوم ذي قارٍ لفرسه:

أَقدم مَحَاجِ إِنها الأَساوِرهْولا يَهُولَنَّكَ رِجْل نادِرهْ
فإنما قَصْرُك تُربُ الساهِرهْثم تعودُ بعدَها في الحافِرهْ
مِن بعـدِ ما صِرت عِظامـا ناخِـرَهْ

وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظِل الساهِرة، وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى: { فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ }، قال أبو كبير الهذليّ:

يَرتَدْنَ ساهِرةً كانّ جمِيمَهاوعمِيمَها أَسْداف ليلٍ مُظلِم

ويقال: الساهور: كالغِلاف للقمر يدخُل فيه إذا كُسِف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصَّلْت:

قَمـر وساهورٌ يُسَـلّ ويُغْمَـدُ

وأنشدوا لآخَر في وصف ٱمرأة:

كأنها عِرقُ سامٍ عِند ضارِبِهِأَوْ شُقةٌ خرجَتْ مِن جوفِ ساهورِ

يريد شُقَّة القمر. وقيل: الساهرة: هي الأرض البيضاء. ورَوى الضحاك عن ٱبن عباس قال: أرض من فِضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة ٱسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه ٱسم مكان من الأرض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على شفير جهنم؛ أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت، بذلك، لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة؛ قال الأشعث بن قيس:

وساهرة يُصْحِي السرابُ مُجَلِّلاًلاًّقطارِها قد جئْتُها متلثِّما

أو لأن سالكها لا ينام خَوف الهَلَكة.