التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا مَن طَغَىٰ
٣٧
وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٣٨
فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ
٣٩
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٤٠
فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ
٤١
-النازعات

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي تجاوز الحد في العِصيان. قيل: نزلت في النضْر وٱبنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة. وروي عن يحيى بن أبي كثير قال: من ٱتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طَغى. وروى جُوَيبر عن الضحّاك قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يَرَوْن على ما يَعلَمون. ويروي أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال «لا يؤثِرُ عبدٌ لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيِّها هلك». { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء. { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي حَذِر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن للَّهِ عز وجل مَقاماً قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: «ولمِن خاف مَقامَ ربهِ جنتانِ». { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مِفتاح الجنة؛ لقوله عز وجل: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحقُّ الهوى، وسيأتي زمان يقود الهَوَى الحقَّ، فنعوذ بالله من ذلك الزمان. { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصْعَب بن عُمير وأخيه عامر بن عمير؛ فروَى الضحاك عن ٱبن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أُسِر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مُصْعَب بن عُمير، فلم يشدُّوه في الوَثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدّثوا مصعَب بن عُمَير حديثه؛ فقال: ما هو لي بأخٍ، شدّوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً. فأوثقوه حتى بعثت أمّه في فِدائه. «وأما من خاف مقام ربه» فمصْعَب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحِّطاً في دمه قال: "عندَ الله أحتسبك وقال لأصحابه: لقد رأيته وعليه بُردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذَهب" . وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامِراً يوم بدر. وعن ٱبن عباس أيضاً قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزوميّ ومصعب بن عمير العبدريّ. وقال السُّدِّي: نزلت هذه الآية «وأما من خاف مقام ربهِ» في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوماً بطعام فلم يسأله وأكله؛ فقال له غلامه: لمِ لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطَوْنيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبَسته فنزلت: «وأما من خاف مقام ربهِ». وقال الكلبيّ: نزلت في من هَمّ بمعصية وقدر عليها في خَلْوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ٱبن عباس. يعني من خاف عند المعصية مَقامه بين يدَي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.