التفاسير

< >
عرض

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ
١٨
-الأنفال

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالىٰ: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي يوم بدر. روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاماً بأن الله تعالىٰ هو المميت والمقدّر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده. وهذه الآية تردّ على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم. فقيل: المعنىٰ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } مِثله، { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }. واختلف العلماء في هذا الرمي على أربعة أقوال:

الأوّل: إن هذا الرمي إنما كان في حَصْب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ رواه ابن وهب عن مالك. قال مالك: ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك. وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضاً.

الثاني: أن هذا كان يوم أُحد حين رمىٰ أبي بن خلف بالحربة في عنقه؛ فَكرَّ أبيّ منهزماً. فقال له المشركون: والله ما بك من بأس. فقال: والله لو بصق عليّ لقتلني. أليس قد قال: بل أنا أقتله. وكان قد أوعد أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك" فمات عدوّ الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة، بموضع يقال له «سَرِف». قال موسىٰ بن عقبة عن ابن شهاب: لما كان يوم أُحُد أقبل أبَيّ مقنعاً في الحديد على فرسه يقول: لا نجوتُ إن نجا محمد؛ فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله. قال موسىٰ بن عقبة قال سعيد بن المسيب: فٱعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلّوْا طريقه؛ فاستقبله مصعب بن عمير يَقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقُتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوة أبَيّ بن خلف من فُرجة بين سابغة البَيْضة والدّرع؛ فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم. قال سعيد: فكسر ضلعاً من أضلاعه؛ فقال: ففي ذلك نزل { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } وهذا ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقيب بدر.

الثالث: أن المراد السّهم الذي رمىٰ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِصن خَيْبر، فسار في الهواء حتى أصاب ٱبن أبي الحُقَيق وهو على فراشه. وهذا أيضاً فاسد وَخَيْبَرُ وفتحُها أبعد من أُحُد بكثير. والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحُقَيق غير هذا.

الرابع: أنها كانت يوم بدر؛ قاله ابن إسحاق. وهو أصح؛ لأن السورة بدرية، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب فرمىٰ بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة؛ وقاله ابن عباس، وسيأتي. قال ثعلب: المعنىٰ «وَمَا رَميْتَ» الفزع والرعب في قلوبهم «إذْ رَمَيْتَ» بالحصباء فانهزموا «وَلِكنَّ اللَّهَ رَمَىٰ» أي أعانك وأظفرك. والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك. حكىٰ هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد: وما رميت بقوتك إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت. { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً } البلاء هٰا هنا النعمة. واللام تتعلق بمحذوف؛ أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو. وقراءة أهل الكوفة { مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ }. وفي التشديد معنىٰ المبالغة. وروي عن الحسن «مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ» بالإضافة والتخفيف. والمعنىٰ: أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرّق جمعهم فيضعفوا. والكيد: المكر. وقد تقدّم.