التفاسير

< >
عرض

وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦١
-الأنفال

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان:

الأُولى ـ قوله تعالى: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } إنما قال «لها» لأن السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا ـ يعني الذين نبذ إليهم عهدهم ـ إلى المسالمة؛ أي الصلح، فمِل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه؛ ومنه قيل للأضلاع جوانح؛ لأنها مالت على الحِشُوة. وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرُّمّة:

إذا مات فوق الرَّحْل أحييتُ روحَهبذكراكِ والعِيسُ المراسيل جُنَّحُ

وقال النابغة:

جوانحُ قد أيقنّ أن قَبِيلهإذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ

يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض. والسَّلم والسلام هو الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن مُحَيْصِن والمفضّل «لِلسِّلِم» بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدّم معنى ذلك في «البقرة» مستوفًى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور «فٱجنح» بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الأشهب العقيلي «فٱجنُح» بضم النون، وهي لغة قيس. قال ٱبن جنيّ: وهذه اللغة هي القياس.

الثانية ـ وقد ٱختُلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعِكرمة: نسخها { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5]. { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة: 36] وقالا: نسخت براءة كلَّ موادعة، حتى يقولوا لا إلۤه إلا الله. ٱبن عباس: الناسخ لها «فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ». وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجِزية من أهل الجزْية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومَن بعده من الأئمة كثيراً من بلاد العجم؛ على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من أهل البلاد على مال يؤدونه؛ من ذلك خَيْبر، ردّ أهلَها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدّوا النّصف. قال ٱبن إسحاق: قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة؛ لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السُّدِّيّ وابن زيد: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربيّ: وبهذا يختلف الجواب عنه؛ وقد قال الله عز وجل: { { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد: 35]. فإذا كان المسلمون على عِزّة وقُوّة ومنَعَة، وجماعة عديدة، وشدّة شديدة فلا صلح؛ كما قال:

فلا صلَح حتى تُطعن الخيلُ بالقَناوتُضرب بالبِيض الرقاق الجماجمُ

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفعٍ يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضَّمْرِيّ وأكَيْدِرَ دُومَة وأهلَ نجران، وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكةً، وبالوجوه التي شرحناها عاملة. قال القُشَيريّ: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألاّ تبلغ الهُدْنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. قال ٱبن المنذر؛ اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحُدَيْبِية؛ فقال عروة: كانت أربع سنين. وقال ٱبن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ٱبن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعيّرحمه الله : لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ٱبن حبيب عن مالك رضي الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة. قال المهلّب: إنما قاضاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين؛ لسبب حبس الله ناقة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت. وقال: "حبسها حابس الفيل" . على ما خرّجه البخاريّ من حديث المِسْوَر بن مِخْرمة. ودلّ على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مالٍ يؤخذ منهم، إذ رأى ذلك الإمام وجهاً. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمالٍ يبذلونه للعدوّ: لموادعة النبيّ صلى الله عليه وسلم عُيينة بن حِصْن الفَزَارِيّ، والحارث بن عوف المُرِّيّ يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشاً، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقداً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا ٱستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة؛ فقالا: "يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع؛ أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة" ؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله؛ والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمِعوا قطُّ أن ينالوا منا ثمرة، إلاَّ شراء أو قِرًى؛ فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلاَّ السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فُسّر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أنتم وذاك" . وقال لعُيينة والحارث: "انصرفا فليس لكما عندنا إلاَّ السيف" . وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة أن لا إله إلاَّ الله فمحاها.