التفاسير

< >
عرض

قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ
١٧
مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ
١٨
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
١٩
ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ
٢٠
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
٢١
ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ
٢٢
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ
٢٣
-عبس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ }؟ «قتِل» أي لعِن. وقيل: عُذِّب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن «قُتِل الإنسان» فإنما عُني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عُتْبة بن أبي لَهَب، وكان قد آمن، فلما نزلت «والنجم» ٱرتدّ، وقال: آمنت بالقرآن كلّه إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه «قتِل الإنسان» أي لُعن عُتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللَّهُمْ سلِّطْ عليه كلبك أسد الغاضِرة" فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما ٱنتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرُّفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئاً قَطُّ إلا كان. وروى أبو صالح عن ٱبن عباس «ما أكفره»: أيُّ شيء أكفره؟ وقيل: «ما» تعجب؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه؛ والمعنى: أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضاً؛ قال ابن جريح أي ما أشدّ كفره! وقيل: «ما» استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر؛ فهو ٱستفهام توبيخ. و «ما» تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أيّ، فتكون ٱستفهاماً. { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } أي من أيّ شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي ٱعجبوا لخلقه. { مِن نُّطْفَةٍ } أي من ماء يسيرٍ مَهِين جَماد { خَلَقَهُ } فلَم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. { فَقَدَّرَهُ } في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدّر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسناً ودميماً، وقصيراً وطويلاً، وشقياً وسعيداً. وقيل: «فقدّره» أي فسواه كما قال: { { أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [الكهف: 37]. وقال: { { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } [الانفطار: 7]. وقيل: «فقدَّره» أطواراً أي من حال إلى حال؛ نطفة ثم علقة، إلى أن تم خَلْقه. { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يَّسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسَّره لطريق الخير والشر؛ أي بيَّن له ذلك. دليله: { { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإنسان: 3] و { { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10]. وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضاً في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضاً قال: سبيل الشقاء والسعادة. ٱبن زيد: سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر: يَسَّر على كل أحد ما خلقه له، وقدَّره عليه؛ دليله قوله عليه السلام: " ٱعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلقِ له" . { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي جعل له قبراً يوارَى فيه إكراماً، ولم يجعله مما يلُقَى على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي؛ قاله الفرّاء. وقال أبو عبيدة: «أقبره»: جعل له قبراً، وأمر أن يُقْبر. قال أبو عبيدة: ولما قَتَل عمرُ بن هُبيرة صالحَ بن عبد الرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أَقبِرنا صالحاً؛ فقال: دونكموه. وقال: «أَقبره» ولم يقل قَبَره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:

لو أَسْندتْ مَيْتا إلى نحرِهاعاشَ ولم يُنقَلْ إلى قابِرِ

يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يُقْبر، وجعل له قبراً؛ تقول العرب: بترت ذَنَب البعير، وأبتره الله، وعضبت قَرْن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلاناً، والله أطرده، أي صيره طريداً. { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة «أَنشرهُ» بالألف. وروي أبو حَيْوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة «شاء نشره» بغير ألف، لغتان فصحيتان بمعنى؛ يقال: أنشر الله الميت ونَشَره؛ قال الأعشى:

حتى يقولَ الناس مما رأَوايا عَجَبَا لِلميتِ الناشِرِ

قوله تعالى: { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } قال مجاهد وقتادة: «لَمّا يَقْضِ»: لا يقضي أحد ما أَمرِ به. وكان ٱبن عباس يقول: «لما يقضِ ما أمره» لم يف بالميثاق الذي أُخِذَ عليه في صلب آدم. ثم قيل: «كَلاَّ» ردع وزجر، أي ليس الأمر: كمَا يقول الكافر؛ فإن الكافر إذا أُخبر بالنُّشور قال: { { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50] ربما يقول قد قضيت ما أَمِرْت به. فقال: كلاّ لمْ يقض شيئاً بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن: أي حَقّاً لم يقض: أي لم يَعمل بما أُمر به. و «ما» في قوله: «لَمّا» عماد للكلام؛ كقوله تعالى: { { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [آل عمران: 159] وقوله: { { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [المؤمنون: 40] وقال الإمام ٱبن فُورَك: أي: كَلاّ لَمّا يقض الله لهذا الكافر ما أَمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. ٱبن الأنباريّ: الوَقف على «كَلاّ» قبيح، والوقف على «أَمره» و «نشره» جيد؛ فـ «ـكلاَّ» على هذا بمعنى حَقًّا.