التفاسير

< >
عرض

فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ
٢٤
أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً
٢٥
ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً
٢٦
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً
٢٧
وَعِنَباً وَقَضْباً
٢٨
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً
٢٩
وَحَدَآئِقَ غُلْباً
٣٠
وَفَاكِهَةً وَأَبّاً
٣١
مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٢
-عبس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } لما ذكر جل ثناؤه ٱبتداء خلق الإنسان، ذكر ما يُسَّر من رزقه؛ أي فلينظر كيف خَلَق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر؛ أي ليتدبرْ كيف خَلَق الله طعامَه الذي هو قِوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. ورُوِي عن الحسن ومجاهد قالا: { فَلينْظرِ الإنسان إِلى طعامِهِ } أي إلى مُدْخله ومُخْرجه. وروى ٱبن أبي خيْثمة " عن الضحاك بن سفيان الكلابيّ قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ضحاكُ ما طعامك قلت: يا رسول الله! اللَّحم واللبن؛ قال: ثم يصير إلى ماذا قلت إلى ما قد علمته؛ قال: فإنّ الله ضرب ما يخرج من ٱبن آدم مثلاً للدنيا" . وقال أبيّ بن كعب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مَطْعَمَ ٱبن آدم جُعِل مثلاً للدنيا وإن قَزَحَه ومَلَّحه فٱنظر إلى ما يصير" . وقال أبو الوليد: سألت ٱبن عَمر عن الرجل يدخل الخَلاء فينظر ما يخرج منه؛ قال: يأتيه الملك فيقول ٱنظر ما بَخِلت به إلى ما صار؟

قوله تعالى: { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } قراءة العامة «إِنا» بالكسر، على الاستئناف. وقرأ الكوفيون ورُوَيْس عن يعقوب «أَنا» بفتح الهمزة، فـ «ـأنا» في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنه قال: «فلينظرِ الإِنسان إِلى طعامِهِ» إلى «أنا صببنا»، فلا يحسُن الوقف على «طعامِهِ» من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت «أَنا» بإضمار هو أنا صببنا؛ لأنها في حال رفعها مترجِمة عن الطعام. وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن عليّ «أَنَّى» ممال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على «طعامه» تام. ويقال: معنى «أنَّى» أين، إلا أنّ فيها كناية عن الوجوه؛ وتأويلها: من أي وجه صَببنا الماء؛ قال الكميت:

أَنَّى ومِنْ أينَ آبكَ الطَّرَبُمِن حيثُ لا صَبْوةٌ ولا رِيبُ

«صببنا الماء صباً»: يعني الغيث والأمطار. { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً }: أي بالنبات { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } أي قمحاً وشعيراً وسُلْتاً وسائر ما يُحْصَد ويدّخر { وَعِنَباً وَقَضْباً } وهو القَتّ والَعلَف؛ عن الحسن: سمي بذلك لأنه يُقْضَب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القُتَبيّ وثعلب: وأهل مكة يسمون القَتَّ القَضْب. وقال ٱبن عباس: هو الرّطب لأنه يُقَضب من النخل: ولأنه ذكر العِنب قبله. وعنه أيضاً: أنه الفِصفِصة وهو القَتّ الرطب. وقال الخليل: القضب الفِصْفِصة الرطبة. وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قَتٌّ. قال: والقضْب: ٱسم يقع على ما يُقْضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سِهام أو قِسِيّ. ويقال: قَضْباً، يعني جميع ما يقضب، مثل القَتِّ والكُرَّاث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصْلها. وفي الصحاح: والقَضْبة والقَضْب الرَّطْبة، وهي الإسفِسْت بالفارسية، والموضع الذي يَنْبُت فيه مَقْضَبة. { وَزَيْتُوناً } وهي شجرة الزيتون { وَنَخْلاً } يعني النخيل { وَحَدَآئِقَ } أي بساتين واحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شيء أَحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة، وما لم يُحَط عليه فليس بحديقة. { غُلْباً } عظاماً شجرها؛ يقال: شجرة غَلْباء، ويقال للأسد: الأغلب؛ لأنه مُصْمَت العنق، لا يلتفت إلا جميعاً؛ قال العجاج:

ما زِلتُ يوم البَيْن أَلوِي صَلَبِيوالرأَسَ حتى صِرتُ مِثلْ الأَغلبِ

ورجل أغلب بيّن الغَلَب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلَب: الرقاب فٱستعير؛ قال قال عمرو بن مَعْدِي كرِب:

يَمشِي بها غُلْب الرقابِ كأَنهمبُزْل كُسِين مِن الكُحَيْلِ جِلالا

وحديقة غلباء: ملتفة وحدئق غُلْب. وٱغلَولَب العشب: بلغ وٱلتف البعض بالبعض. قل ٱبن عباس: الغُلْب: جمع أغلب وغلباء وهي الغِلاظ. وعنه أيضاً الطِّوال. قتادة وٱبن زيد: الغُلْب: النخل الكرام. وعن ٱبن زيد أيضاً وعِكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. { وَفَاكِهَةً } أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخَوْخ وغيرهما { وَأَبّاً } هو ما تأكله البهائم من العُشب؛ قال ٱبن عباس والحسن: الأَبُّ: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحَصيد؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

لَه دَعْوة ميْمونة ريُحها الصَّبابها يُنبِتُ الله الحصِيدة والأَبَّا

وقيل: إنما سمي أَبًّا؛ لأنه يُؤَبُّ أي يُؤَمّ ويُنْتجَع. والأَب والأم: أَخَوان؛ قال:

جِذمنا قيسٌ ونجدٌ دارناولنا الأَبُّ بِهِ والمَكْرَع

وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رَزِين: هو النبات. يدلّ عليه قول ٱبن عباس قال: الأبُّ: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام. وعن ٱبن عباس أيضاً وٱبن أبي طلحة: الأبّ: الثمار الرَّطْبة. وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ٱبن عباس أيضاً؛ قال الشاعر:

فما لَهُمُ مَرْتَعٌ لِلسَّوامِ والأَبُّ عندَهم يُقْدَرُ

الكلبيّ: هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل: الفاكهة: رَطْب الثمار، والأب يابسها. وقال إبراهيم التيميّ: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أيُّ سماء تُظِلني، وأيُّ أرض تُقِلُّني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم. وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعَمْر اللَّهِ التكلُّف، وما عليك يا بن أم عُمَر ألاَّ تدري ما الأب؟ ثم قال: ٱتبعوا ما بُيِّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خُلِقتم من سبْع، ورزِقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبْع" . وإنما أراد بقوله: "خلقتم من سبع" يعني { { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } [الحج: 5] الآية، والرزق من سْبع، وهو قوله تعالى: { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } إلى قوله: { وَفَاكِهَةً }، ثم قال: { وَأَبّاً } وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. { مَّتَاعاً لَّكُمْ } نصب على المصدر المؤكِّد، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثلٍ ضربه الله تعالى لبعث الموتَى من قبورهم؛ كنبات الزرع بعد دُثُوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن ٱمتناناً عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضاً.