التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ
٣٣
يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
٣٤
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
٣٥
وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
٣٦
لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
٣٧
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ
٣٨
ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ
٣٩
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ
٤٠
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
٤١
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ
٤٢
-عبس

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما ٱمتَنَّ به عليهم. والصاخّة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تَصُخ الأسماع: أي تُصِمُّها فلا تسمع إلا ما يُدْعَى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تِصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي ٱستمع إليه، ومنه الحديث: "ما من دابة إلاّ وهي مُصِيخة يومَ الجمعة شَفَقاً من الساعة إلاّ الجنَّ والإِنس" . وقال الشاعر:

يُصِيخُ لِلَّنبْأَةِ أَسْماعَهُإِصاخةَ المُنْشِدِ لِلمنْشِدِ

قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأوّل، قال الخليل: الصاخَّة: صيحة تَصُخّ الآذان صَخًّا أي تُصِمُّها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصَّكُّ الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صَخَّه بالحجر: إذا صَكَّه، قال الراجز:

يا جارتِي هل لكِ أن تجالِدِيجلادة كالصَّك بالجَلامِدِ

ومن هذا الباب قول العرب: صَخَّتْهمُ الصّاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبريّ: وأحسبه من صَخّ فلان فلاناً: إذا أصماه. قال ٱبن العربيّ: الصاخّة التي تُورِث الصَّمَم، وإنها لمُسِمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حَديثي الأسنان حديثي الأزمان:

أَصَمَّ بِكَ الناعِي وإِنْ كان أَسْمَعا

وقال آخر:

أَصَمَّنِي سِرُّهم أيامَ فُرقتهمفهل سمِعتم بسِر يُورِث الصَّمَما

لعمر اللَّهِ إنّ صيحة القيامة لمسمِعة تُصِم عن الدنيا، وتُسمِعُ أمور الآخرة.

قوله تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده: { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التَّبِعات. وقيل: لئلا يرَوَا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئاً؛ كما قال: "يوم لا يغنِي مولًى عن مولًى شيئاً" . وقال عبد الله بن ظاهر الأبهري: يفرّ منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما ٱعتمد شيئاً سوى ربه تعالى. { وَصَاحِبَتِهُ } أي زوجته. { وَبَنِيهِ } أي أولاده.

وذكر الضحاك عن ٱبن عباس قال: يفرّ قابيلُ من أخيه هابيلَ، ويفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ٱبنه، ولوط من ٱمرأته، وآدم من سَوْأة بنيه. وقال الحسن: أوّل من يفرّ يوم القيامة من أبيه: إبراهيم، وأوّل من يفرّ من ٱبنه نوح، وأوّل من يفرّ من ٱمرأته لوط. قال: فيَرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }. في صحيح مسلم "عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يُحْشَر الناس يوم القيامة حفُاة عُراة غُرْلاً قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة، الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض" خرّجه التِّرمذي عن ٱبن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُحشرون حفاة عُراة غُرْلاً فقالت ٱمرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: يا فلانة { لكل ٱمرِيء مِنهم يومِئذٍ شأن يغنِيهِ }" . قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حالٌ يشغَله عن الأقرباء. وقرأ ٱبن مُحيصن وحُميد «يَعْنِيهِ» بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره. وقال القُتَبي: يعنيه: يصرفه ويُصدّه عن قرابته؛ ومنه يقال: ٱعْنِ عني وجهك: أي ٱصرفْه وٱعنِ عن السفيه؛ قال خُفاف:

سَيَعْنِيك حرب بني مالِكٍعن الفُحْشِ والجهلِ في الْمَحفِل

قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ }: أي مُشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. { ضَاحِكَةٌ } أي مسرورة فَرِحة. { مُّسْتَبْشِرَةٌ }: أي بما آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخُراساني: «مُسْفِرة» من طول ما ٱغْبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نَعِيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ٱبن عباس: من قيام الليل؛ لما رُوي في الحديث: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أي غبار ودخان { تَرْهَقُهَا } أي تغشاها { قَتَرَةٌ } أي كسوف وسواد. كذا قال ٱبن عباس. وعنه أيضاً: ذِلة وشِدّة. والقَتَر في كلام العرب: الغبار، جمع القَتَرة، عن أبي عُبيد؛ وأنشد الفرزدق:

مُتَوَّجٌ بِرِداء الملكِ يَتْبعهمَوجٌ ترى فوقه الراياتِ والقَتَرا

وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت تراباً يوم القيامة حُوِّل ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم: القَترة: ما ٱرتفعت إلى السماء، والغَبَرة: ما ٱنحطت إلى الأرض، والغبار والغَبَرة: واحد. { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ } جمع كافر { ٱلْفَجَرَةُ } جمع فاجر، وهو الكاذب المفترى على الله تعالى. وقيل: الفاسق؛ (يقال): فجر فجوراً: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.