التفاسير

< >
عرض

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ
١
أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ
٢
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ
٣
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٤
-عبس

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { عَبَسَ } أي كلح بوجهه؛ يقال: عبس وبَسَر. وقد تقدّمَ. { وَتَوَلَّىٰ } أي أعرض بوجهه { أَن جَآءَهُ } «أنْ» في موضع نصب لأنه مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَقْطَع عبدُ الله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عُروة حدّثه عن عروة، أنه قال: نزلتْ «عبس وتولى» في ٱبن أمّ مكتوم؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد ٱستدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرِض عنه ويُقْبل على الآخر، ويقول: "يا فلان، هل ترى بما أقولُ بأساً" ؟ فيقول: لا والدُّمَى ما أرى بما تقول بأساً؛ فأنزل الله «عبس وتولى». وفي الترمذي مسنداً قال: حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأُموي، حدّثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة، "قالت: نزلت عبس وتولى في ٱبن أمّ مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرض عنه، ويُقْبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأساًفيقول: لا؛ ففي هذا نزلت" ؛ قال: هذا حديث غريب.

الثانية ـ الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، وٱسم أمّ مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ٱبن قيس بن زائدة بن الأصمّ، وهو ٱبن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. ٱبن العربي: قاله المالكية من علمائنا، وهو يكني أبا عبد شمس. وقال قتادة: هو أمية بن خلص وعنه: أبيّ بن خلف. وقال مجاهد: كانوا ثلاثة عتبة وشيبة ٱبنا ربيعة وأبيّ بن خلف. وقال عطاء عتبة بن ربيعة. سفيان الثوري: كان النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس. الزمخشري: كان عنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ٱبنا ربيعة، أبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خَلَف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رَجاء أن يُسْلم بإسلامهم غيرهم. قال ٱبن العربيّ: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وٱبن أمّ مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفرداً، ولا مع أحد.

الثالثة ـ أقبل ٱبن أمّ مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوِي طمعه في إسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ٱبن أمّ مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعة كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العُميان والسَّفلة والعبيد؛ فعبَس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثَّوريّ: "فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أمّ مكتوم يبسط له رداءه ويقول: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي. ويقول: هل من حاجة" ؟ وٱستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكباً وعليه درع ومعه راية سوداء.

الرابعة ـ قال علماؤنا: ما فعله ٱبن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصُّفَّة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيراً أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً نوعاً من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: { { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } [الأنفال: 67] الآية. على ما تقدّم. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ٱبن أمّ مكتوم من الإيمان؛ كما قال: "إني لأصل الرجل وغيره أحب إليّ منه، مخافة أن يكُبه الله في النار على وجهه" .

الخامسة ـ قال ٱبن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ٱبن أمّ مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوعُ جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم: «عبَس وتولَّى» بلفظ الإخبار عن الغائب، تعظيماً له ولم يقل: عبَستَ وتوليتَ. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له فقال: { وَمَا يُدْرِيكَ } أي يعلمك { لَعَلَّهُ } يعني ٱبن أمّ مكتوم { يَزَّكَّىٰ } بما ٱستدعَى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في «لعله» للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذَّكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يُدْريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن «آأَن جاءه الأعمى» بالمدّ على الاستفهام فـ «ـأن» متعلقة بفعل محذوف دل عليه «عبس وتولى» التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على «وتولَّى»، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة.

السادسة ـ نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام: { { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } [الأنعام: 52] وكذلك قوله في سورة الكهف: { { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الكهف: 28] وما كان مثله، والله أعلم: { أَوْ يَذَّكَّرُ } يتعظ بما تقول { فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي العظة. وقراءة العامة «فتنفعُه» بضم العين، عطفاً على «يَزَّكَّى». وقرأ عاصم وٱبن أبي إسحاق وعيسى «فتنفَعه» نصباً. وهي قراءة السُّلمِيّ وزِرّ بن حُبَيش، على جواب لعل، لأنه غير موجَب؛ كقوله تعالى: { { لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ } [غافر: 36] ثم قال: { { فَٱطَّلَعَ } [الصافات: 55].