التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ
١٥
ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ
١٦
وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
١٧
وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
١٨
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
١٩
ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ
٢٠
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
٢١
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
٢٢
-التكوير

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ } أي أقسم، و «لا» زائدة، كما تقدّم. { بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } هي الكواكب الخمسة الدَّراريّ: زُحَل والمُشترِي وعُطارِد والمِرّيخُ والزُّهَرة، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مَرويّ عن عليّ كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان: أحدهما ـ لأنها تَستقبل الشمس؛ قاله بكر بن عبد الله المُزَني. الثاني ـ لأنها تقطع المجرّة؛ قاله ٱبن عباس. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، وقاله عليّ رضي الله عنه، قال: هي النجوم تخنِس بالنهار، وتظهر بالليل؛ وتكنِس في وقت غروبها؛ أي تتأخر عن البَصر لخفائها، فلا تُرَى. وفي الصحاح: و «الخُنَّس»: الكواكب كلها. لأنها تخنِس في المغيب، أو لأنها تخنِس نهاراً. ويقال: هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ }: إنها النجوم الخمسة؛ زُحل والمشترِي والمِرّيخ والزُّهَرة وعطارد؛ لأنها تَخنِس في مجراها، وتَكْنِس، أي تستتر كما تكنِس الظباء في المغار، وهو الكناس. ويقال: سميت خُنَّسا لتأخرها، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال: خَنَس عنه يَخْنُس بالضم خنوساً: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلَّفه ومضى عنه. والخَنَس تأخر الأنف عن الوجه مع ٱرتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خُنْس. وقد روي عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } هي بقر الوحش. روي هُشَيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شُرَحبيل قال قال لي عبد الله ابن مسعود: إنكم قوم عرب فما الخنس؟ قلت: هي بقر الوحش؛ قال: وأنا أرى ذلك. وقاله إبراهيم وجابر بن عبد الله. وروي عن ٱبن عباس: إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروي عنه عِكرمة قال: «الخُنَّس»: البقر و «الكنَّس»: هي الظباء، فهي خُنَّس إذا رأين الإنسان خَنَسْنَ وٱنقبضن وتأخرن ودخلن كِناسهنّ. القشيريّ: وقيل على هذا «الخُنَّس» من الخَنَس في الأنف، وهو تأخُر الأرنبة وقصر القَصَبة، وأنوف البقر والظباء خنس. والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك.

قلت: لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ٱبن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ٱبن عباس وسعيد بن جُبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال: سألت جابر بن زيد عن الجواري الكُنَّس، فقال: الظباء والبقر، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم. وقد قيل: إنها الملائكة؛ حكاه الماورديّ. والكُنَّس الغُيَّب؛ مأخوذة من الكِناس، وهو كِناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أَوس بن حَجَر:

ألم تر أنَّ اللَّهَ أنزلَ مُزْنَهُوعُفْرُ الظباءِ في الكِناس تَقَمَّعُ

وقال طَرَفة:

كأَنْ كِناسَيْ ضالةٍ يَكْنُفانِهاوأَطْرَ قِسِيٍّ تحتَ صُلْبٍ مُؤَيَّدِ

وقيل: الكُنوس أن تأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحش والظباء. قال الأعشى:

فلمَّا أتينا الحي أَتْلَعَ أنۤسٌكما أَتلَعَتْ تحتَ المكانِس رَبْربُ

يقال: تَلَع. النهار ٱرتفع وأتلعتِ الظبية من كِناسها: أي سَمَت بجيدها. وقال ٱمرُؤ القيس:

تَعَشَّى قليلاً ثم أَنحى ظُلُوفهيثِير التراب عن مَبِيتٍ ومَكْنِسِ

والكُنَّس: جمع كانِس وكانِسة، وكذا الخُنَّس جمع خانِس وخانِسة. والجواري: جمع جارية من جرى يجري. { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعسَ أدبَر؛ حكاه الجوهريّ. وقال بعض أصحابنا: إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدويّ. { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } أدبر بظلامه؛ عن ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما أيضاً وعن الحسن وغيره: أقبل بظلامه. زيد بن أسلم: «عسعسَ» ذهب. الفرّاء: العرب تقول عسعس وسَعْسَع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره: عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ٱبتداء الظلام في أوّله، وإدباره في آخره؛ وقال علقمة بن قرط:

حتى إذا الصبحُ لها تنفّساوٱنجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسَا

وقال رُؤْبة:

يا هندُ ما أسرعَ ما تَسَعْسَعَامن بَعْدِ ما كان فَتًى سَرَعْرَعَا

وهذه حجة الفراء. وقال ٱمرؤ القيس:

عَسْعَسَ حتّى لو يشاءُ ٱدَّناكانَ لنا مِن نارِهِ مَقْبِسُ

فهذا يدل على الدنوّ. وقال الحسن ومجاهَد: عَسَعَسَ: أظلم؛ قال الشاعر:

حتى إذا ما ليلُهن عسعسَارِكبن مِن حد الظلامِ حِندِسَا

الماورديّ: وأصل العسّ الامتلاء؛ ومنه قيل للقدح الكبير عُسّ لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه؛ وأطلق على إدباره لانتهاء ٱمتلائه على ظلامه؛ لاستكمال ٱمتلائه به. وأما قول ٱمرىء القيس:

أَلمَّـا على الربـعِ القديم بِعسْعَسَا

فموضع بالبادية. وعسعس أيضاً ٱسم رجل؛ قال الرجز:

وعَسْعَسَ نِعْـمَ الفـتى تبيـاه

أي تعتمده. ويقال للذئب العَسْعَس والعَسْعاس والعَسَّاس؛ لأنه يَعُسُّ بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العَسَاعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو: والتعسعس الشم، وأنشد:

كمنخـر الذِّئبِ إذا تَعَسْعَسَـا

والتعسعس أيضاً: طلب الصيد بالليل.

قوله تعالى: { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } أي ٱمتدّ حتى يصير نهاراً واضحاً؛ يقال للنهار إذا زاد: تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف. وقيل: «إِذا تنفس» أي ٱنشق وٱنفلق؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت. { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل؛ قاله الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى «إِنه لقول رسولٍ» عن الله «كرِيم» على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقوله «تنزيل مِن رب العالمِين» ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل. وقيل: هو محمد عليه الصلاة والسلام { ذِي قُوَّةٍ }: من جعله جبريل فقوّته ظاهرة؛ فروى الضحاك عن ٱبن عباس قال: من قوّته قلعه مدائن قوم لُوط بقوادم جناحه. { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } أي عند الله جل ثناؤه { مَكِينٍ } أي ذي منزلة ومكانة؛ فُروي عن أبي صالح قال: يدخل سبعين سُرادِقاً بغير إذن. { مُّطَاعٍ ثَمَّ }: أي في السموات؛ قال ٱبن عباس: من طاعة الملائكة جبريل، أنه لما أَسْرِى برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: ٱفتح له، ففتح، فدخل ورأى ما فيها، وقال لمالك خازن النار: ٱفتح له جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه وفتح له. { أَمِينٍ } أي مؤتمن على الوحي الذي يجيء به. ومن قال: إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى «ذِي قوةٍ» على تبليغ الرسالة «مُطاعٍ» أي يطيعه من أطاع الله جلّ وعزّ. { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون حتى يتهم في قوله. وهو جواب القسم. وقيل: أراد النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جلّ وعز فقال: ما ذاك إليّ؛ فأذن له الرب جل ثناؤه، فأتاه وقد سدّ الأفق، فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه، فقال المشركون: إنه مجنون، فنزلت: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } وإنما رأى جبريل على صورته فهابه، وورد عليه ما لم تحتمل بِنيته، فخرّ مغشياً عليه.