التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ
٢٣
وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ
٢٤
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
٢٥
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ
٢٦
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٢٧
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ
٢٨
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٩
-التكوير

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي رأى جبريل في صورته، له ستمائة جَناح. { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي بمطلع الشمس من قِبل المَشْرق؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مُبين. أي من جهته تُرَى الأشياء. وقيل: الأفق المبين: أقطار السماء ونواحيها؛ قال الشاعر:

أَخَذْنا بِآفاقِ السماءِ عليكُمُلنا قَمراها والنجومُ الطوالِعُ

الماورديّ: فعلى هذا، فيه ثلاثة أقاويل؛ أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقيّ؛ قاله سفيان. الثاني: في أفق السماء الغربيّ، حكاه ٱبن شجرة. الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مَشْرق مكة؛ قاله مجاهد. وحكى الثعلبيّ عن ٱبن عباس، "قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: إني أحبُّ أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء قال: لن تقدر على ذلك. قال: بلى قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال: بالأبطح قال: لا يسعُني. قال: فبِمنًى قال: لا يسعني. قال: فبعرفات قال: ذلك بالحرى أن يسعني. فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل بخَشْخَشةٍ وكَلْكلةٍ من جبال عَرَفات، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب؛ ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه، فتحول جبريل في صورته، وضمه إلى صدره. وقال: يا محمد لا تخف؛ فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من خشية الله، حتى يصير مثل الوَصَع ـ يعني العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته" . وقيل: إن محمداً عليه السلام رأى ربه عز وجل بالأفق المبين. وهو معنى قول ٱبن مسعود. وقد مضى القول في هذا في «والنجم» مستوفًى، فتأمله هناك. وفي «المبين» قولان: أحدهما أنه صفة الأفق؛ قاله الربيع. الثاني أنه صفة لمن رآه؛ قاله مجاهد. { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ }: بالظاء، قراءة ٱبن كثير وأبي عمرو والكسائيّ، أي بمتَّهم، والظنة التُّهمَة؛ قال الشاعر:

أما وكِتاب اللَّهِ لا عن شناءةٍهُجِرتُ ولكِنّ الظنِينَ ظَنِينُ

وٱختاره أبو عُبيد؛ لأنهم لم يُبَخِّلوه ولكن كذبوه؛ ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتَّهم. وقرأ الباقون «بِضَنِينٍ» بالضاد: أي ببخيل من ضَنِنْت بالشيء أضنّ ضِنًّا (فهو) ضنِين. فروى ٱبن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضنّ عليكم بما يعلم، بل يُعَلِّم الخَلْقَ كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر:

أَجود بِمكنونِ الحديثِ وإننِيبِسِرِّكِ عمن سالنِي لضَنِينُ

والغَيْب: القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل: صفة جبريل عليه السلام. وقيل: بظَنين: بضعيف. حكاه الفراء والمبرد؛ يقال: رجل ظنِين: أي ضعيف. وبئر ظَنونٌ: إذا كانت قليلة الماء؛ قال الأعشى:

ما جُعِل الجُدُّ الظَّنونُ الذيجُنِّب صَوْبَ اللجِبِ الماطِرِ
مِثلَ الفُراتِيِّ إذا ما طمايقذِف بالبُوصِيِّ والماهِرِ

والظَّنون: الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا؟ ومنه حديث عليّ عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقاً. والظَّنون: الرجل السيِّيء الخلق؛ فهو لفظ مشترك. { وَمَا هُوَ } يعني القرآن { بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } أي مرجوم ملعون، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } قال قتادة: فإلى أين تعدِلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روَى مَعْمر عن قتادة؛ أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج: فأيّ طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بَيَّنت لكم. ويقال: أين تذهب؟ وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشامَ وخرجت العراقَ وٱنطلقت السوقَ: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة؛ وأنشد بعض بني عُقَيل:

تصِيح بنا حنِيفةُ إذْ رأتناوأيَّ الأرضِ تذهبُ بالصياحِ

يريد إلى أي أرض تذهب، فحذف إلى. وقال الجنيد: معنى الآية مقرون بآية أخرى، وهي قوله تعالى: { { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [الحجر: 21] المعنى: أيَّ طريق تسلكون أبينَ من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. { إِنْ هُوَ } يعني القرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي مَوْعظة وزَجْر. و «إنْ» بمعنى «ما». وقيل: ما محمد إلا ذِكر. { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } قال أبو جهل: الأمر إلينا. إن شئنا ٱستقمنا، وإن شئنا لم نستقم ـ وهذا هو القَدَر، وهو رأس القَدَرية ـ فنزلت: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيراً إلا بتوفيق الله، ولا شراً إلا بخذلانه. وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن مُنبه: قرأتُ في سبعة وثمانين كتاباً مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: { { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 111]. وقال تعالى: { { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [يونس: 100]. وقال تعالى: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56] والآي في هذا كثير، وكذلك الأخبار، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام، وأضل بالكفر، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله.