التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ
١
وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ
٤
وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ
٥
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ
٦
وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ
٧
وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ
٨
بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ
٩
وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ
١١
وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
١٢
وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
١٣
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ
١٤
-التكوير

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال ٱبن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. والحسن: ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد: وروي عن ٱبن عباس أيضاً. سعيد بن جُبير: عُوِّرَتْ. أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحي. وقال الربيع بن خيثم: «كورت» رمُيِ بها؛ ومنه: كوّرته فتكوّر، أي سقط.

قلت: وأصل التكوير: الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تُكَوَّر ويمحي ضوءها، ثم يُرمْى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح: كوّرت: نكِّستْ. { وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة: ٱنصبَّت كما تنصَبّ العُقاب إذا ٱنكسرت. قال العجّاج يصف صقراً:

أَبصرَ خِربان فضاء فانكدرتقضِّيَ البازِي إذا البازِي كَسَر

وروَى أبو صالح عن ٱبن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض، حتى يفزَع أهل الأرض السابعة مما لَقِيت وأصاب العليا" ، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ٱبن عباس قال: تساقطت؛ وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا جاءت النفخة الأولى مات من في الأرض ومن في السموات، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون ٱنكدارها طَمْس آثارها. وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها. وعن ٱبن عباس أيضاً: ٱنكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها. والمعنى متقارب. { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } يعني قُلِعت من الأرض، وسيرت في الهواء؛ وهو مثل قوله تعالى: { { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } [الكهف: 47]. وقيل سيرُها تحوّلها عن منزلة الحجارة، فتكون كثيباً مَهِيلا، أي رملاً سائلاً، وتكون كالعِهن، وتكون هباء منثوراً، وتكون سَراباً، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أَمتا. وقد تقدم في غير موضع والحمد لله. { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ } أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها؛ الواحدة عُشَراء، أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك ٱسمها حتى تضع، وبعد ما تضع أيضاً. ومن عادة العرب أن يسمُّوا الشيء باسمه المتقدّم وإن كان قد جاوز ذلك؛ يقول الرجل لفرسه وقد قَرِح: هاتوا مُهْري، يسميه بمتقدّم ٱسمه؛ قال عنترة:

لا تذكرِي مُهْرِي وما أطمعتُهفيكونَ جِلدُكِ مثلَ جِلدِ الأَجرب

وقال أيضاً:

وحَمَلْتُ مُهرِي وسْطَها فمضاها

وإنما خص العِشار بالذكر، لأنها أعز ما تكون على العرب، وليس يُعَطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عُشَرَاءَ، ولكن أراد به المثل؛ أن هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عُشَراءُ لعطَّلها وٱشتغل بنفسه، وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضاً، ورأوا الوُحوش والدوابّ محشورة، وفيها عِشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبئوا بها، ولم يهمَّهم أمرُها. وخُوطبت العرب بأمر العِشار؛ لأن ما لها وعيشها أكثره من الإبل. وروَي الضحاك عن ٱبن عباس: عُطِّلت: عَطَّلها أهلها، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى:

هو الواهِبُ المائةَ المصطفاةَ إما مَخاضاً وإما عِشارَا

وقال آخر:

ترى المرءَ مهجوراً إذا قلَّ مالهُوبيتُ الغِنى يُهْدَى له ويُزارُ
وما ينفعُ الزوّارَ مالُ مَزُورِهِمإذا سَرَحَتْ شَوْلٌ له وعِشارُ

يقال: ناقة عُشَراء، وناقتان عُشَراوان، ونوق عِشارٌ وعُشَراوات، يبدلون من همزة التأنيث واواً. وقد عَشَّرت الناقة تعشيراً: أي صارت عُشَراء. وقيل: العِشار: السحاب يُعَطَّل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر؛ والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل: الديار تُعَطَّل فلا تُسكن. وقيل: الأرض التي يُعَشَّر زرْعها تعطل فلا تزرع. والأوّل أشهر، وعليه من الناس الأكثر. { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي جمعتْ والحشر: الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ٱبن عباس: حَشْرها: موتها. رواه عنه عِكرمة. وحَشْر كل شيء: الموت غيرَ الجن والإنس، فإنهما يُوافيان يوم القيامة. وعن ٱبن عباس أيضاً قال: يُحْشَر كل شيء حتى الذُّباب. قال ٱبن عباس: تحشر الوحوش غداً: أي تجمع حتى يُقتصَّ لبعضها من بعض، فيقتصَّ للجَمّاء من القَرْناء، ثم يقال لها كوني تراباً فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عِكرمة، وقد بيناه في كتاب «التذكرة» مستوفى، ومضى في سورة «الأنعام» بعضُه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل: عُنِي بهذا أنها مع نُفْرتها اليوم من الناس وتنددها في الصحارَى، تنضم غداً إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبيُّ بن كعب. { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } أي ملئت من الماء؛ والعرب تقول: سَجَرت الحوضَ أَسَجِّره سَجْرا: إذا ملأته، وهو مسجور، والمسجور والساجر في اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سُجِّرت: فاضت ومُلئت. وقاله الكلبيّ ومقاتل والحسن والضحاك. قال ٱبن أبي زَمْنين: سُجِّرت: حقيقته مُلِئت، فيفِيض بعضها إلى بعض، فتصير شيئاً واحداً. وهو معنى قول الحسن. وقيل: أرسِل عَذْبها على مالحها، ومالحها على عذبها، حتى ٱمتلأت. عن الضحاك ومجاهد: أي فُجرت فصارت بحراً واحداً. القشيريّ: وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى: { { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 20]، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار، فعمت الأرض كلها، وصارت البحار بحراً واحداً. وقيل: صارت بحراً واحداً من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضاً وقتادة وٱبن حيان: تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القُشَيْريّ: وهو من سَجَرْت التنور أَسْجُره سَجْرا: إذا أحميته، وإذا سُلّط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة، وتُسَيَّر الجبال حينئذ، وتصير البحار والأرض كلها بساطاً واحداً، بأن يُمْلأَ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس: وقد تكون الأقوال متفقة؛ يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض، بعضها إلى بعض، فتقلَب ناراً.

قلت: ثم تُسَيَّر الجبال حينئذ، كما ذكر القشيري، والله أعلم. وقال ٱبن زيد وشَمِر وعطية وسفيان ووهب وعلي بن أبي طالب وٱبن عباس في رواية الضحاك عنه: أُوقدت فصارت ناراً. قال ٱبن عباس: يُكَوِّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، ثم يبعث الله عليها ريحاً دَبُوراً، فتنفخُه حتى يصير ناراً. وكذا في بعض الحديث: "يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدَّبور فيسجِّرها ناراً، فتلك نار الله الكبرى، التي يعذب بها الكفار" . قال القشيْري: قيل في تفسير قول ٱبن عباس { سُجِّرَتْ } أوقدت، يحتمل أن تكون جهنم في قُعور من البحار، فهي الآن غير مسْجورة لِقوام الدنيا، فإذا ٱنقضت الدنيا سُجِّرت، فصارت كلها ناراً يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار، ثم يوقد الله البحر كله فيصير ناراً. وفي الخبَر: البحر نار في نار وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم وسْط الأرض، أسفله آبار مُطْبقة بنُحاس يُسَجَّر ناراً يوم القيامة. وقيل: تكون الشمس في البحر، فيكون البحر ناراً بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها، ويجوز أن يكون يوم القيامة، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة.

قلت: رُوِي عن عبد الله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طَبَق جَهَنم. وقال أبيّ بن كعب: ست آيات من قَبْل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودُهِشوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحرّكت واضطربت واحترقت، فصارت هباء منثوراً، ففزعت الإنس إلى الجنّ والجنّ إلى الإنس، واختلطت الدوابُّ والوحوش والهوامُّ والطير، وماج بعضها في بعض؛ فذلك قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } ثم قالت الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجَّج، فبينما هم كذلك تصدَّعتِ الأرض صَدْعة واحدة إلى الأرض السابعة السُّفلَى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذا جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل: معنى «سُجِّرت»: هو حُمْرة مائها، حتى تصير كالدم؛ مأخوذ من قولهم: عين سَجْراء: أي حمراء. وقرأ ابن كثير «سُجِرَت» وأبو عمرو أيضاً، إخباراً عن حالها مرة واحدة. وقرأ الباقون بالتشديد إخباراً عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال النعمان بن بشير: قال النبي صلى الله عليه وسلم "وإِذا النفوس زُوّجت" قال: "يُقْرَن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله" . وقال عمر بن الخطاب: يُقْرَن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة، السابقون زوج ـ يعني صنفاً ـ وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضاً قال: زُوّجت نفوس المؤمنين بالحُور العين، وقُرن الكافر بالشياطين، وكذلك المنافقون. وعنه أيضاً: قُرِن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المَبرِّز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله؛ فالتزويج أن يُقرن الشيء بمثله؛ والمعنى: وإذا النفوس قُرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من مَلِك وسطلان، كما قال تعالى: { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ }. وقال عبد الرحمن بن زيد: جُعلوا أزواجاً على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج؛ وقد قال جل ثناؤه: { { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22] أي أشكالهم. وقال عِكرمة: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قرنت الأرواح بالأجساد؛ أي ردت إليها. وقال الحسن: ألحق كل امرىء بشيعته: اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئاً من دون الله يُلْحَق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل: يُقْرَن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل: قُرِنت النفوس بأعمالها، فصارت لاختصاصها به كالتزويج.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } الموءودة المقتولة؛ وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيؤودها أي يثقلها حتى تموت؛ ومنه قوله تعالى: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي لا يثقله؛ وقال متمم بن نُويرة:

ومَوءودة مَقبورة فِي مَفازةٍبآمتِها مَوْسودة لم تُمَهّد

وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين؛ إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفاً من السبيْ والاسترقاق. وقد مضى في سورة «النحل» هذا المعنى، عند قوله تعالى: { { أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ } [النحل: 59] مستوفًى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا، ويمنعون منه، حتى ٱفتخر به ٱلفرزدق، فقال:

ومِنّا الَّذي منعَ الوائِداتِفأحيا الوِئيد فلم يُوأَدِ

يعني جدّه صعصعة كان يشتريهن من آبائهن، فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة. وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردّتِ التراب عليها، وإن ولدت غلاماً حبسته، ومنه قول الراجز:

سَمَّيتها إذ وُلِدتْ تموتُوالقبرُ صِهرٌ ضامِنٌ زِمِّيتُ

الزِّميت الوقور، والزميت مثال الفِسيق أوقر من الزّمِيتِ، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم، وما أشد تَزَمته؛ عن الفراء. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاتبهم الله على ذلك، وتوعدهم بقوله: «وإِذا الموءودة سئِلت» قال عمر في قوله تعالى { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } قال: "جاء قيس ابن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنى وأدت ثمانَ بنات كنّ لي في الجاهلية، قال: فأعتِق عن كل واحدة منهن رقبة قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال: فأهْدِ عن كل واحدة منهنّ بَدَنة إن شئت" . وقوله تعالى: «سُئِلت» سؤال الموءودة سُؤال توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضُرِب: لم ضُرِبت؟ وما ذنبك؟ قال الحسن: أراد الله أن يُوبِّخ قاتلها؛ لأنها قُتِلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم: بأي ذنب ضُرِبت، وكانوا يُضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى «سئلت» قال: طُلِبت؛ كأنه يريد كما يُطلب بدم القتيل. قال: وهو كقوله: { { وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } [الأحزاب: 15] أي مطلوباً. فكأنها طُلِبت منهم، فقيل أين أولادكم؟! وقرأ الضحاك وأبو الضُّحا عن جابر بن زيد وأبي صالح «وإِذا الموءودة سَألت» فتتعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأيّ ذنب قتلتني؟! فلا يكون له عذر؛ قاله ابن عباس وكان يقرأ { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سألت } وكذلك هو في مصحف أُبيّ. وروى عِكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدُها بثدييها، ملطخاً بدمائه، فيقول يا ربّ، هذه أمي، وهذه قتلتني" والقول الأوّل عليه الجمهور، وهو مثل قوله تعالى لعيسى: { { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [المائدة: 116]، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموءودة توبيخ لوائدها، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب، فبأيّ ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقريء «قُتِّلت» بالتشديد، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يُعَذَّبون، وعلى أن التعذيب لا يُستَحقّ إلا بذنب.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } أي فُتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كَتَبَت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تُطْوَى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: { { مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]. وروَى مَرْثَد بن وَدَاعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده { { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [الغاشية: 10] إلى قوله: { { ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } [الحاقة: 24] وتقع صحيفة الكافر في يده «فِي سَمُومٍ وحَمِيم إلى قوله: ولا كريم». ورُوِي "عن أمّ سلمة رضي الله عنها. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يُحْشَر الناس يوم القيامة حُفاة عراة فقلت: يا رسول الله! فكيف بالنساء؟ قال: شُغِل الناس يا أمَّ سَلَمة. قلت: وما شَغَلَهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل" . وقد مضى في سورة «سُبْحان» قول أبي الثوّار العدَوِيّ: هما نَشْرَتان وطَيَّة، أما ما حييت يا بن آدم فصحيفتك المنشورة، فأملِ فيها ما شئت، فإذا مِت طوِيت، حتى إذا بُعثت نشِرت { اقرأ كِتابك كفى بِنفسِك اليوم عليك حسِيباً } [الإسراء: 14]. وقال مقاتل: إذا مات المرء طُوِيت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نُشِرت. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا بن آدم. وقرأ نافع وٱبن عامر وعاصم وأبو عمرو «نُشِرَتْ» مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع. وقيل: لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ }: الكشط: قَلْع عن شدّة التزاق؛ فالسماء تُكْشَط كما يكْشَط الجلد عن الكبش وغيره، والقَشْط: لغة فيه. وفي قراءة عبد الله { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ قُشِطَت } وكَشَطْتُ البعير كشطاً: نزعت جلده، ولا يقال سَلَخْته؛ لأن العرب لا تقول في البعير إلا كَشَطْته أو جَلَّدته، وٱنكشط: أي ذهب؛ فالسماء تُنْزَع من مكانها كما ينزع الغِطاء عن الشيء. وقيل: تُطْوَى كما قال تعالى: { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ }، فكأن المعنى: قلِعت فطويت. والله أعلم.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } أي أوقدت فأُضْرمت للكفار وزيدَ في إحمائها. يقال: سَعَّرْتُ النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نَافع وٱبن ذَكوانَ ورُوَيْس بالتشديد؛ لأنها أوقدت مرة بعد مرة. قال قتادة: سَعَّرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذِيّ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوقد على النار ألفَ سنة حتى ٱحمرت، ثم أوقد عليها ألفَ سنةٍ حتى ٱبيضَّت، ثم أوقد عليها ألفَ سنة حتى ٱسودَّت، فهي سوداء مُظلمة" ورُوِي موقوفاً.

قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } أي دَنَتْ وقُرِّبت من المتقين. قال الحسن: إنهم يُقَرَّبون منها؛ لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبد الرحمن بن زيد يقول: زُينت: أزْلِفَتْ؟ والزلفى في كلام العرب: القُربة؛ قال الله تعالى: { { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الشعراء: 90] وتزلف فلان تقرب.

قوله تعالى: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أُجري الحديث. ورُوِيَ عن ٱبن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرآها، فلما بلغا «علِمت نفس ما أحْضَرت» قالا لهذا أجريت القصة؛ فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم بين يديه، فتستقبله النار، فمن ٱستطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل" وقال الحسن: «إِذ الشمس كورت» قسم وقع على قوله: «علِمت نفس ما أحضرت» كما يقال: إذا نفَرَ زيد نفر عمرو. والقول الأوّل أصح. وقال ٱبن زيد عن ٱبن عباس في قوله تعالى: { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } إلى قوله: { وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } ٱثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة؛ وقد بينا الستة الأولى بقول أبيّ بن كعب.