التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ
٦
ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
٧
فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
٨
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ
٩
-الانفطار

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ } خاطب بهذا منكري البعث. وقال ٱبن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبيّ بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الجُمَحِيّ. عن ٱبن عباس أيضاً: « ما غرك بربك الكريم » أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ «بربك الكريم» أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غره شيطانه المسلَّط عليه. الحسن: غره شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: "لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } قال: غره الجهل" وقال صالح بن مسمار: بلغنا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يٰأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ فقال:غره جهلُه" . وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى { { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أوّل مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل للفُضَيل ابن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: { { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار: 6]؟ ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غَرَّني سُتُورك المرخاة، لأن الكريم هو الستَّار. نظمه ٱبن السَّماك فقال:

يا كاتمَ الذنب أما تستحيواللَّهُ في الخُلْوة ثانيكَا
غَرَّكَ من ربك إمهالُهُوسَتْرُه طولَ مَساويكَا

وقال ذو النون المصريّ: كم من مغرور تحت السَّتْر وهو لا يشعر.

وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:

يا من غلا في العُجْب والتيهِوغره طولُ تماديهِ
أَمْلَى لك الله فبارزتهولم تخف غِبّ مَعاصيهِ

وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يُلَبَّه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تُجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خَدَعك وسَوَّل لك، حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ٱبن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يٱ بن آدم ماذا غرك بي؟ يا بن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا بن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ { ٱلَّذِي خَلَقَكَ } أي قدرَّ خلقَك من نطفة { فَسَوَّاكَ } في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك { فَعَدَلَكَ } أي جعلك معتدلاً سَوِيّ الخَلْق؛ كما يقال: هذا شيء معدّل. وهذه قراءة العامة، وهي ٱختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: { { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4]. وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: «فعدَلك» مخففاً أي: أمالك وصرفك إلى أيّ صورة شاء، إما حسناً وإما قبيحاً، وإما طويلاً وإما قصيراً. وقال موسى بن عليّ بن أبي رَباح اللَّخْمي عن أبيه عن جده قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إن النطفة إذا ٱستقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم" . أما قرأت هذه الآية { فِيۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }: "فيما بينك وبين آدم" (وقال عكرمة وأبو صالح: { فِيۤ أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }): إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكراً، وإن شاء أنثى. قال مجاهد: «فِي أي صورةٍ» أي في أي شبه من أبٍ أو أم أو عم أو خالٍ أو غيرهم. و «في» متعلقة بـ «ـركبك»، ولا تتعلق بـ «ـعدَلك»، على قراءة من خفف؛ لأنك تقول عَدَلْت إلى كذا، ولا تقول عَدَلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدّر «في» متعلقة بـ «ـعدَلك»، و «ما» يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛ أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قِرد أو حمار أو خنزير، فـ «ـما» بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك.

قوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ } يجوز أن تكون «كَلاَّ» بمعنى حقًّا و «ألاَ» فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى «لا»، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقُّون. يدل على ذلك قوله تعالى: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غُررت به. وقيل: أي ليس الأمر كما تقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا تغتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ٱبن الأنباريّ: الوقف الجيّد على «الدينِ»، وعلى «ركبك»، والوقف على «كَلاّ» قبيح. { بَلْ تُكَذِّبُونَ } يأهل مكة { بِٱلدِّينِ } أي بالحساب، و «بل» لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوماً، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.