التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ
٧
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
٨
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
٩
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٠
ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
١١
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
-المطففين

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } قال قوم من أهل العلم بالعربية: { كَلاَّ }: ردْع وتنبيه؛ أي ليس الأمر على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة رَدْع وزَجْر، ثم ٱستأنف فقال: { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ }. وقال الحسن: { كَلاَّ } بمعنى حَقًّا. ورَوَى ناس عن ٱبن عباس «كَلاَّ» قال: ألا تصدقون؛ فعلى هذا: الوقفُ «لِرب العالمِين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروي ناس عن ٱبن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم «لفِي سجِينٍ». وروى ٱبن أبي نجَيج عن مجاهد قال: سجِيِّن صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ٱبن عباس وقتادة وسعيد بن جُبير ومقاتل وكعب؛ قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خدّ إبليس. وعن كعب أيضاً قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها ٱسم كل شيطان، تلقى أنفس الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخُراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذرّيته. وعن ٱبن عباس قال: إن الكافر يحضُره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يُرُوه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجِيِّن، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن رُوح الفاجر إذا قبضت يُصْعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهْبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلَها، فتدخل في سبع أرضين، حتى يُنْتَهِى بها إلى سجِيِّن، وهو خد إبليس، فيخرج لها من سجين من تحت خدّ إبليس رَقّ، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجِيِّن في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء. وقال: سجين صخرة في الأرض السابعة. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سجين جُب في جهنم وهو مفتوح" "وقال في الفلق: إنه جُبّ مغطى" . وقال أنس: هي دَرَكة في الأرض السفلى. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سجين أسفلَ الأرض السابعة" . وقال عِكرمة: «سجِين: خسار وضلال؛ كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض. وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج: «لفِي سجِينٍ» لفي حبس وضيق شديد، فِعيِّل من السَّجْن؛ كما يقول: فِسِّيق وشِرِّيب؛ قال ٱبن مقبل:

ورُفقةٍ يضرِبون البَيْضَ ضاحِيةضَرْباً تواصتْ به الأبطالُ سجِيّناً

والمعنى: كتابهم في حبس؛ جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم، أو لأنه يَحُل من الإعراض عنه والإبعاد له مَحَلّ الزجر والهوان. وقيل: أصله سِجِّيل، فأبدلت اللام نوناً. وقد تقدّم ذلك. وقال زيد بن أسلم: سجِيِّن في الأرض السافلة، وسجِيل في السماء الدنيا. القُشيريّ: سجيِّن: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها؛ ولهذا قال في كتاب الأبرار: «يشهده المقربون». { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره له فقال: { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي مكتوب كالرقْم في الثوب، لا يُنْسَى ولا يُمْحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يُزاد فيهم أحدَ ولا يَنْقُص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير؛ وأصل الرقم: الكتابة؛ قال:

سأُرقم في الماءِ القَراحِ إِليكُمُعلى بعدِكُم إِن كان للمِاءِ راقِمُ

وليس في قوله: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربياً، كما لا يدل في قوله: { { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ } [القارعة: 1-3] بل هو تعظيم لأمر سجين. وقد مضى في مقدّمة الكتاب ـ والحمد لله ـ أنه ليس في القرآن غير عربيّ. { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي شدةٌ وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بيَّن تعالى أمرهم فقال: { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم، وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما؛ لقوله تعالى: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } وقراءة العامة «تُتْلَى» بتاءين، وقراءة أبي حَيْوة وأبي سِماك وأشهب العُقَيلي والسُّلَمي: «إذا يُتْلَى» بالياء. وأساطير الأولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. واحدها أُسْطورة وإِسطارة، وقد تقدّم.