التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ
١٦
ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
١٧
-المطففين

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }: «كَلاّ»: ردْع وزجْر، أي ليس هو أساطيرَ الأَوّلينَ. وقال الحسن: معناها حقاً «رَانَ على قُلُوبهمْ». وقيل: في الترمذيّ: عن أبي هُريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نُكْتة سوداء، فإذا هو نزع وٱستغفر الله وتاب، صُقِل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلُوَ على قلبه، وهو (الرَّانُ) الذي ذكر الله في كتابه كَلاّ بلْ رَان على قُلُوبهمْ ما كانوا يَكْسِبون" . قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب. قال مجاهد: هو الرجل يُذْنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يدنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تُغَشِّي الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً }... الآية. ونحوه عن الفراء؛ قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرَّيْنُ عليها. ورُوي عن مجاهد أيضاً قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب ٱنقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب الذنب ٱنقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يُطْبَع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرَّيْن، ثم قرأ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }. ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبد الله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانياً صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمُنْخُل، أو كالغِربال، لا يعي خيراً، ولا يثبُت فيه صلاح. وقد بيَّنا في «البقرة» القولَ في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لإِعادتها. وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ٱبن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ٱبن عباس شيئاً الله أعلم بصحته؛ قال: هو الرَّان الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يُلْبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يُضْمن عُهْدة صحتِه. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهلُ اللغة عليه؛ يقال: رَانَ على قلبه ذنبُه يَرِينُ رَيْنا ورُيونا أي غلب. قال أبو عُبيدة في قوله: «كَلاَّ بلْ رَانَ علَى قُلُوبِهمْ ما كانوا يكسِبُونَ» أي غلب؛ وقال أبو عُبيد: كل ما غلبك وعَلاَكَ فقد ران بك، ورانك، وران عليك؛ وقال الشاعر:

وكَمْ رانَ مِن ذنبٍ على قلِب فاجِرٍفتابَ مِن الذنبِ الذي رَانَ وٱنجلَى

ورانتْ الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النُّعاسُ: إذا غطّاه؛ ومنه قول عمر في الأُسَيفع ـ أُسَيْفعِ جُهَيْنة ـ: فأصبح قد رِينَ به. أي غلبته الديون، وكان يَدَّانُ؛ ومنه قول أبي زُبَيد يصف رجلاً شرب حتى غلبه الشراب سُكْراً، فقال:

ثم لما رآه رانتْ بِهِ الخمــرُ وأَنْ لا تَرِينَه بِاتقاءِ

فقوله: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الأمويّ: قد أران القوم فهم مُرِينون: إذا هلكت مواشيهم وهُزِلت. وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون ٱحتماله. قال أبو زَيد يقال: قد رِينَ بالرجل رَيْنا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال: أبو مُعاذ النحويّ: الرَّين: أن يسودّ القلب من الذنوب، والطَّبَع أن يُطْبَع على القلب، وهذا أشد من الرَّين، والإقفال أشد من الطَّبَع. الزَّجّاج: الرَّيْن: هو كالصدأ يُغَشِّي القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غِين على قلبه: غُطِّي. والغَين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيره الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبيّ عن ٱبن عباس: «ران على قلوبِهم»: أي غطَّى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل «ران» بالإمالة؛ لأن فاء الفعل الراء، وعينه الألف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل؛ لأن باب فاء الفعل في (فَعَلَ) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. وٱختاره أبو عُبيد وأبو حاتم ووقف حفص «بَلْ» ثم يبتديء «رَانَ» وقفاً يُبَيِّن اللام، لا للسكت.

قوله تعالى: { كَلاَّ إِنَّهُمْ } أي حقاً «إنهم» يعني الكفار { عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { لَّمَحْجُوبُونَ }. وقيل: «كلاَّ» ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }. قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرىَ في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22-23] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوماً بالسخط، دل على أن قوماً يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا. وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال مجاهد في قوله تعالى { لَّمَحْجُوبُونَ }: أي عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو ٱلْجَحِيمِ } أي ملازموها، ومحترفون فيها غير خارجين منها، { { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56] و { { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97]. ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. { ثُمَّ يُقَالُ } لهم أي تقول لهم خزنة جهنم { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } رسل الله في الدنيا.