قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } نزلت في الأسود بن عبد الأسد أخي أبي سلمة؛ قاله ٱبن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ٱبن عباس: يمدّ يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه مَلَك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً } أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } أي ويدخل النار حتى يصلى بحرّها. وقرأ الحِرْميان وٱبن عامر والكسائي «ويُصْلَى» بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام؛ كقوله تعالى:
{ { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } [الحاقة: 31] وقوله: { { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [الواقعة: 94]. الباقون «ويَصْلَى» بفتح الياء مخففاً، فعل لازم غير متعد؛ لقوله: «إِلا من هو صالِ الجحِيم» وقوله: { { يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } [الأعلى: 12] وقوله: { { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو ٱلْجَحِيمِ } [المطففين: 16]. وقراءة ثالثة رواها أبان عن عاصم وخارجة عن نافع وإسمعيل المكي عن ٱبن كثير «ويُصْلَى» بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففاً؛ كما قرىء «وسَيُصْلَون» بضم الياء، وكذلك في «الغاشية» قد قرىء أيضاً: «تُصْلَى ناراً» وهما لغتان صلى وأصلى؛ كقوله: «نزل. وأنزل» { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ } أي في الدنيا { مَسْرُوراً } قال ٱبن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: { { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } [الطور: 26-27]. قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحِك فيها والتفكه. فقال: { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }. { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } أي لن يرجع حياً مبعوثاً فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع؛ قال لبيد: وما المرء إِلا كالشهابِ وضوئِهِيحورُ رَماداً بعد إِذا هو ساطِعُ
وقال عِكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجور أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة ٱشتقاق؛ ومنه الخبز الحُوارَى؛ لأنه يرجع إلى البياض. وقال ٱبن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حُورى، أي ارجَعي إليّ، فالحَوْر في كلام العرب الرجوع؛ ومنه قوله عليه السلام: "اللهم إني أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر" يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحُور بالضم. وفي المثل «حُورٌ في محارة» أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يُدْبِر؛ قال الشاعر: وٱستعجلوا عن خفِيف المضغِ فٱزدردُواوالذم يبقَى وزاد القومِ في حُوْرِ
والحُورْ أيضاً: الاسم من قولك: طحَنَتِ الطاحنة فما أحارت شيئاً؛ أي ما ردت شيئاً من الدقيق. والحُورْ أيضاً: الهلكة؛ قال الراجز: فـي بِئرِ لا حُورٍ سَرَى ولا شَعَر
قال أبو عبيدة: أي بئر حُورِ، و «لا» زائدة. وروي «بعد الكون» ومعناه من ٱنتشار الأمر بعد تمامه. وسئِل معمر عن الحَوْر بعد الكون، فقال: هو الكُنْتِيّ. فقال له عبد الرزاق: وما الكُنْتِيّ؟ فقال: الرجل يكون صالحاً ثم يتحول رجل سَوْء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتِيّ، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال: فأصبحت كُنتِيا وأصبحت عاجِناوشر خِصالِ المرءِ كُنْتُ وعاجِنُ
عجن الرجل: إذا نهض معتمداً على الأرض من الكبر. وقال ٱبن الأعرابي: الكنتِيّ: هو الذي يقول: كنت شاباً، وكنت شجاعاً، والكانِيّ هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب. قوله تعالى: { بَلَىٰ } أي ليس الأمر كما ظنّ، بل يحور إلينا ويرجع. { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } قبل أن يخلقه، عالماً بأن مرجعه إليه. وقيل: بلَى ليَحُورنّ وليرجعَنّ. ثم ٱستأنف فقال: «إن ربه كان بِهِ بِصيرا» من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقيل: عالماً بما سبق له من الشقاء والسعادة.