التفاسير

< >
عرض

قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ
٤
ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ
٥
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
٦
وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
٧
-البروج

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } أي لعن. قال ٱبن عباس: كل شيء في القرآن «قُتل» فهو لُعِن. وهذا جواب القسم ـ في قول الفرّاء ـ واللام فيه مضمرة، كقوله: « { والشمس وضحاها - ثم قال - قد أفلح من زكاها } »: [الشمس: 1-9] أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماءِ ذات البُروج؛ قاله أبو حاتم السجستانيّ. ٱبن الأنباريّ: وهذا غَلَط؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد؛ على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم { { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } [البروج: 10]. وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لَتُبْعَثُنَّ. وهذا ٱختيار ٱبن الأنباريّ. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخدّ لمجاري الدموع، والمخدّة؛ لأن الحدّ يوضع عليها. ويقال: تخدّد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح، قال طَرَفة:

ووجهٌ كأنّ الشمسَ حلتْ رداءهاعليه نَقيُّ اللونِ لم يَتَخدّدِ

{ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } «النار» بدل من «الأخدود» بدل الاشتمال. و «الوقود» بفتح الواو قراءة العامة، وهو الحَطَب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر؛ أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوُقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العُقَيلي وأبو السَّمال العدويّ وٱبن السميقع «النار ذات» بالرفع فيهما؛ أي أحرقتهم النار ذات الوقود. { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } أي الذين خدّدوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجرانَ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقد ٱختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر؛ فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فٱبعث إليّ غلاماً أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاماً يعلمه؛ فكان في طريقه إذا سَلَك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه؛ فكان إذا أتي الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه؛ فإذا أتى الساحر ضربه؛ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحرَ فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتي على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فٱقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس؛ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني؛ أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى؛ فإن ٱبتليت فلا تدلَّ عليّ. وكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفِي الله؛ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؛ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك: مَنْ ردّ عليك بصرك؟ قال ربيِّ. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربُّك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دَلَّ على الغلام؛ فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟! قال: إنا لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب؛ فجيء بالراهب، فقيل له: ٱرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مَفْرِق رأسِه فشقه حتى وقع شِقاه. ثم جيء بِجلِيس الملِكِ فقيل له: ٱرجع عن دينك؛ فأبى فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه، فشقه به حتى وقع شِقاه. ثم جيء بالغلام فقبَل له: ٱرجع عن دينك، فأبي فدفعه إِلى نفرٍ من أصحابه فقال: ٱذهبوا به إِلى جبل كذا وكذا، فٱصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فٱطرحوه؛ فذهبوا به فصعِدوا به الجبل فقال: اللهم ٱكفِنِيهم بما شِئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملِك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانِيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: ٱذهبوا به فٱحملوه في قُرْقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فٱقذفوه؛ فذهبوا به فقال: اللهم ٱكفنيهم بما شئت؛ فٱنكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحدِ، وتصلبني على جِذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بٱسم الله رب الغلام، ثم ٱرمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناسَ في صعيد واحد، وصلبه على جِذْع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بٱسم الله رب الغلام؛ ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملِك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد واللَّهِ نزل بك حَذرك، قد آمن الناس؛ فأمر بالأخدودٍ في أفواه السِّكك، فخدّت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ـ أو قيل له ٱقتحم ـ ففعلوا؛ حتى جاءت ٱمرأة ومعها صبيّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمَّة ٱصبِرِي فإنِك على الحق" . خرجه الترمذي بمعناه. وفيه: "وكان على طريق الغلام راهب في صومعة" قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه: "أن الدابة التي حَبَستِ الناس كانت أَسداً، وأن الغلام دُفن ـ قال ـ فيذكر أنه أُخرج في زمن عمر ابن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتِل" . وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ٱبن عباس قال: كان مَلِك بنَجْران، وفي رعِيته رجل له فتى، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل؛ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب، فدخل في دين الراهب؛ فأقبل يوماً فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم، فأخذ حجراً فقال بٱسم الله رب السموات والأرض وما بينهما؛ فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله عبد الله بن ثامر؛ وكان ٱسمَ الغلام، فغضب الملك، وأمر فخُدّت أخاديد، وجُمع فيها حطب ونار، وعَرَض أهل مملكته عليها، فمن رجعِ عن التوحيد تركه، ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجيء بٱمرأة مُرْضعِ فقيل لها ٱرجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك ـ قال ـ فأشفقت وهمَّت بالرجوع، فقال لها الصبيّ المُرْضَع: يا أمي، ٱثبتُي على ما أنت عليه، فإنما هي غميضة؛ فألقَوها وٱبنها. وروي أبو صالح عن ٱبن عباس أن النار ٱرتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذِراعاً فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تُبّع الحميري، وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً، وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه. حكاه الماورديّ، وحكى الثعلبيّ عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذُوا رجالاً ونساء، فخدّوا لهم الأخاديد، ثم أوقدوا فيها النار، ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تُقْذَفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه؛ وقاله عَطِية العوفِيّ. ورُوي نحو هذا عن ٱبن عباس. وقال عليّ رضي الله عنه: إن مِلكاً سُكِر فوقع على أخته، فأراد أن يجعل ذلك شرعاً في رعِيته فلم يقبلوا، فأشارت إليه أن يخطُب بأن الله ـ عز وجل ـ أحل نكاح الأخوات، فلم يُسمع منه. فأشارت إليه أن يخدّ لهم الأخدود، ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكِحون الأخوات وهم المَجُوس، وكانوا أهل كتاب. ورُوي عن عليّ أيضاً أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبياً بعثه الله تعالى إلى الحبشة، فٱتبعه ناس، فحذّ لهم قومهم أخدوداً، فمن ٱتبع النبيّ رمي فيها، فجيء بٱمرأة لها بُنَيّ رضيع فجزِعت، فقال لها: يا أمّاه، ٱمضي ولا تجزعي. وقال أيوب عن عِكرمة قال: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } قال: كانوا من قومك من السجِستان. وقال الكلبيّ: هم نصارى نجران، أخَذوا بها قوماً مؤمنين، فخدّوا لهم سبعة أخاديد، طول كل أخدود أربعون ذراعاً، وعرضه ٱثنا عشر ذراعاً. ثم طرح فيه النفط والحطب، ثم عرضوهم عليها؛ فمن أبى فذقوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقُسْطنطينية زمان قُسْطَنطين. وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة؛ واحد بنجران، والآخر بالشام، والآخر بفارس. أمّا الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نُواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة، والآخر بنجران، آجر أحدهما نفسه، فجعل يعمل ويقرأ الإِنجيل؛ فرأت ٱبنة المستأجِر النورَ في قراءة الإنجيل، فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وٱمرأة، بعد ما رفع عيسى، فخدّ لهم يوسف بن ذي نُواس بن تُبَّعٍ الحِميرِيّ أخدوداً، وأوقد فيه النار؛ وعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن ٱمرأة معها ولدها صغير لم يتكلم، فرجعت، فقال لها ٱبنها: يا أمّاه، إني أرى أمامك ناراً لا تُطْفَأ، فقَذَفا جميعاً أنفسهما في النار، فجعلها الله وٱبنها في الجنة. فقُذِف في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً. وقال ٱبن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام، يقال له قيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً في القرى، لا يُعْرَف بقرية إلا مضى عنها، وكان بَنَّاء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القُرَظيّ: وكان أهل نَجْرانَ أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر؛ فلما نزل بها قيميون، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر؛ فبعث إليه الثامرُ عبدَ الله ابن الثامر، فكان مع غلمان أهل نجران، وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحَّد الله وعبده، وجعل يسأله عن ٱسم الله الأعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه إياه وقال: يا بن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه؛ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ٱبنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخِل عليه بتعليم ٱسم الله الأعظم، عمد إلى قِداح فجمعها، ثم لم يُبق لله تعالى ٱسماً يعلمه إلا كتبه في قِدْح، لكل اسم قِدْح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قِدْحاً قِدْحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدحه، فوثب القِدْح حتى خرج منها لم يضرَّه شيء؛ فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه قد علم ٱسم الله الأعظم الذي كتمه إِياه؛ فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يٱبن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله ابن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضُرُّ إلا قال: يا عبد الله، أتوحِّد الله وتدخل في ديني، فأدعوَ الله لك فيعافِيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم؛ فيوحِّد الله ويسلم، فيدعو الله له فيُشْفَى، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فٱتبعه على دينه ودعا له فعوفي؛ حتى رُفِع شأنه إلى ملكهم، فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، فلأمثلنّ بك. قال: لا تقدر على ذلك؛ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح عن رأسه، فيقع على الأرض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجرانَ، بحار لا يلقَى فيها شي إلا هلك، فيلقَى فيها فيجرج ليس به بأس؛ فلما غلبه قال له عبد الله ابن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحِّد الله وتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سُلِّطت عليّ وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانَه، وٱجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحُكْمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث؛ فمن ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نُواس اليهوديّ بجنوده من حِمْير، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فٱختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود؛ فحَّرق بالنار وقتل بالسيف، ومَثَّل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفاً. وقال وهب بن منبه: ٱثني عشر ألفاً. وقال الكلبيّ: كان أصحاب الأخدود سبعين ألفاً. قال وهب: ثم لما غَلَب أرياط على اليمن خرج ذو نُواس هارباً، فاقتحم البحر بفرسه فغرِق. قال ٱبن إسحاق: وذو نُواس هذا ٱسمه زُرْعة بن تُبّان أسعد الحميريّ، وكان أيضاً يسمى يوسف، وكان له غدائر من شعرٍ تَنُوسُ، أي تضطرب، فسمى ذا نُواس؛ وكان فعل هذا بأهل نجران، فأفلت منهم رجل ٱسمه دَوْسٌ ذو ثَعْلَبان، فساق الحبشة لينتصر بهم، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر؛ ألقى نفسه فيه؛ وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:

أَتُوعِدني كأنك ذو رُعَيْنٍبأَنعم عِيشةٍ أو ذو نُواسِ
وكائِنْ كان قبلَك من نَعِيمومُلْكٍ ثابتٍ في الناس راسِ
قديمٍ عهدُه من عهدِ عادٍعظيم قاهرِ الجبروت قاسِ
أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحىيُنَقَّل من أناس في أناس

وذو رُعين: ملك من ملوك حمير. ورُعَين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سَبَأ.

مسألة: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وَحَّد قبلهم من الشدائد، يُؤنِّسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسّوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صِغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نُشِر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا، حَسْب ما تقدم بيانه في سورة «النحل».

قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال الله تعالى مخبراً عن لقمان: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }: وروى أبو سعيد الخُدرِيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر" : خرجه الترمذيّ وقال: حديث حسن غريب، ورَوَى ابن سنجر (محمد بن سنجر) "عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أوضىء النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، قال: أوصني: فقال: لا تشرك بالله شيئاً وإن قُطِّعت أو حُرِّقْت بالنار..." الحديث: قال علماؤنا: ولقد امتُحِن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصَّلْب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك: ويكفيك قصة عاصم وخُبيب وأصحابهما وما لَقُوا من الحروب والمِحَن والقتل والأسر والحرق، وغير ذلك، وقد مضى في «النحل» أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك، فتأمله هناك.

قوله تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } دعاءٌ على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين، أي إنهم قُتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين، فإنه رُوِي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار، وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نَجَوا، وأحرقت النار الذين قعدوا، ذكره النحاس، ومعنى «عليها» أي عندها وعلى بمعنى عند: وقيل: «عليها» على ما يدنو منها منها من حافات الأخدود، كما قال:

وباتَ علـى النارِ النَّـدى والمحلَّقُ

العامل في { إِذْ }، { قُتِلَ } أي لعنوا في ذلك الوقت: { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي حضور: يعني الكفار، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبى ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك: وقيل: «على» بمعنى مع، أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.