التفاسير

< >
عرض

فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
٥
خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ
٦
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ
٧
إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
٨
-الطارق

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ } أي ابن آدم { مِمَّ خُلِقَ }؟ وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه؛ فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يُمْلِي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و{ مِمَّ خُلِقَ }؟ استفهام؛ أي من أي شيء خلق؟ ثم قال: { خُلِقَ } وهو جواب الاستفهام { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } أي من المنِيّ. والدّفْق: صب الماء، دفقت الماء أدفُقُه دفقاً: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق؛ كما قالوا: سِرّ كاتِم: أي مكتوم؛ لأنه من قولك: دُفِق الماء، على ما لم يُسَمَّ فاعله. ولا يقال: دَفَق الماءُ. ويقال: دفَقَ الله رُوحَه؛ إذا دُعِي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: «من ماءٍ دافِقٍ» أي مصبوب في الرّحِم. الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل؛ أي ذو فرس، ودِرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدّة قوّته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لَكِنْ جعلهما ماء واحداً لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: «دافِقٍ» لَزِج. { يَخْرُجُ } أي هذا الماء { مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ } أي الظهر. وفيه لغات أربع: صُلْب، وصُلُب ـ وقرىء بهما ـ وصَلَب (بفتح اللام)، وصالب (على وزن قالَب)؛ ومنه قول العباس:

تُـنْقَـلُ مـن صـالَـبٍ إلـى رَحِـمٍ

{ وَٱلتَّرَآئِبِ }: أي الصدر، الواحدة: تَرِيبة؛ وهي موضع القِلادة من الصدر. قال:

مهْفهفة بيضاء غيرُ مُفاضةٍترائبُها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ

والصُّلْب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها؛ وقال عكرمة. ورُوي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين؛ وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجِيد. مجاهد: هو ما بين المنكِبين والصدر. وعنه: الصِّدَر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المَدَنيّ: الترائب عُصارة القلب؛ ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر. وقال دُريد بن الصمة:

فإن تدبِروا نأخذكُمُ في ظهورِكُمْوإن تقبِلوا نأخذكم في الترائب

وقال آخر:

وبدت كأن ترائبا من نحرهاجمرُ الغَضَى في ساعدٍ تتوقد

وقال آخر:

والزعفرانُ على ترائِبِهاشِرق به اللبات والنحرُ

وعن عكرمة: الترائب: الصدر؛ ثم أنشد:

نِـظـامُ دُرٌ عـلـى تـرائـبـهـا

وقال ذو الرمّة:

ضَـرَجْـن الـبـرود عـن تـرائـب حـرة

أي شققن. ويروى «ضرحن» بالحاء؛ أي ألقين. وفي الصحاح: والتريبة: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر؛ ما بين الترقوة والثَّندُوة.

قال الشاعر:

أشـرفَ ثَـديـاهـا علـى الـتَّـرِيـبِ

وقال المثقِّب العَبْدِيّ:

ومِن ذَهَبِ يُسَنّ على تَرِيبٍكلون العاج ليسَ بذي غُضونِ

عن غير الجوهريّ: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الأصمعيّ: مَغْرِز الثدي. وقال ابن السكيت: هي اللحم حول الثدي؛ إذا ضممت أوّلها همزت، وإذا فتحت لم تهمز). وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدّم؛ وقاله الأعمش. وقد تقدّم مرفوعاً في أوّل سورة (آلِ عمران). والحمد لله ـ وفي (الحجرات) { { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } [الحجرات: 13] وقد تقدّم. وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله: «من بين الصلب»؛ لأنه إن نزل من الدماغ، فإنما يمرّ بين الصلب والترائب. وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب؛ وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب. وقال الحسن: المعنى؛ يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن؛ ولذلك يُشْبه الرجل والديه كثيراً. وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضاً المكثر من الجماع يجد وجعاً في ظهره وصلبه؛ وليس ذلك إلا لخلوّ صلبه عما كان محتبساً من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة «يخرج من بين الصُّلُب» بضم اللام. ورُوِيت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدويّ وقال: من جعل المنِيّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في «يخرج» للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان. وقرىء «الصَّلَب»، بفتح الصاد واللام. وفيه أربعُ لغات: صُلْب وصُلُب وصَلَب وصَالَب. قال العَجَّاج:

فـي صَلَـبٍ مثـلِ الـعِنـان المـؤدَمِ

وفي مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم:

تُنْقَل من صَالَبٍ إلى رَحِمٍ

الأبيات مشهورة معروفة.

{ إِنَّهُ } أي إن الله جل ثناؤه { عَلَىٰ رَجْعِهِ } أي على ردّ الماء في الإحليل، { لَقَادِرٌ } كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضاً أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب؛ وقاله عكرمة. وعن الضحاك أيضاً أن المعنى: إنه على ردّ الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضاً أن المعنى: إنه على ردّ الإنسان من الكِبَر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوِيّ. وفي الماوردِيّ والثعلبيّ: إلى الصِّبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضاً: إنه على ردّ الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبريّ. الثعلبيّ؛ وهو الأقوى؛ لقوله تعالى: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ }. قال الماورديّ: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة؛ لأن الكفار يسألون الله تعالى فيها الرَّجْعة.