التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ
٢
وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ
٣
وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ
٤
فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ
٥
-الأعلى

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } قد تقدّم معنى التسوية في «الانفطار» وغيرها. أي سوّى ما خلق، فلم يكن في خلقه تَثْبِيج. وقال الزجاج: أي عدّل قامته. وعن ابن عباس؛ حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوّى خلقه. وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوّى في أرحام الأمّهات. وقيل: خلق الأجساد، فسوّى الأفهام. وقيل: أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف. { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } قرأ عليّ رضي الله عنه والسُّلمِيُّ والكِسائيّ «قَدَر» مخففة الدال، وشدّد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدّر ووفق لكل شكل شكله. { فَهَدَىٰ } أي أرشد. قال مجاهد: قدّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هَدَى الإنسانَ للسعادة والشقاوة، وهَدَى الأنعام لمراعيها. وقيل: قدّر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنساً، ولمراعيهم إن كانوا وَحْشاً. وروي عن ابن عباس والسُّدَّيّ ومقاتل والكلبيّ في قوله «فَهَدَى» قالوا: عَرَّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى؛ كما قال في (طه): { { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه: 50] أي الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له. وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقيل: «قَدَّرَ فهدَى»: قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عمِيت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازِيانج الغضّ يرد إليها بصرها؛ فربما كانت في بَرّية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوِي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجُم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحدّ من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوامّ الأرض باب واسع، وشَوْط بطِين، لا يحيط به وصف واصف؛ فسبحان ربي الأعلى. وقال السُّدّيّ: قدّر مدّة الجنين في الرّحِم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرّحِم. وقال الفراء: أي قدّر، فهدى وأضل؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ كقوله تعالى: { { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان؛ كقوله تعالى: { { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ } [الشورى: 52] أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الإيمان. وقيل: «فهدى» أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً. ولا خلاف أن من شدّد الدال من «قَدَّر» أنه من التقدير؛ كقوله تعالى: { { وخلق كل شىء فقدره تقديرا } [الفرقان: 52]. ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القُدْرة والمُلْك؛ أي ملك الأشياء، وهدى من يشاء.

قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى. هو تفسير العلوّ الذي يليق بجلال الله سبحانه على جميع مخلوقاته.

قوله تعالى: { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } أي النبات والكلأَ الأخضَر. قال الشاعر:

وقد ينْبُتُ المَرْعَى على دِمنِ الثَّرَىوتَبقَى حَزازات النفوسِ كما هِيَا

{ فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } الغُثاء: ما يقذِف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقُماش. وكذلك الغُثَّاء (بالتشديد). والجمع: الأغثاء. قتادة: الغثاء: الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبِس: غُثاءٌ وهَشِيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القُماش غثاء؛ كما قال:

كأنّ طَمِيّةَ المُجَيمِرِ غُدْوةًمن السَّيْل والأَغثاءَ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجَفأَ. وكذلك الماء: إذا علاه من الزَّبَد والقُماش ما لا ينتفع به. والأَحْوى: الأسود؛ أي أن النبات يضرب إلى الحُوّة من شدّة الخضرة كالأسود. والحوّة: السواد؛ قال الأعشى:

لَمْيَاء في شَفَتيها حُوّةٌ لَعَسٌوفي اللِّثاثِ وفي أَنيابها شَنَب

وفي الصحاح: والحوّة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حوّاء، وقد حَوِيت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفرة. وتصغير أحوى أحيوٍ؛ في لغة من قال أسَيْوِد. ثم قيل: يجوز أن يكون «أحوى» حالاً من «المَرعَى»، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد؛ والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء. يقال: قد حَوِيَ النبت؛ حكاه الكسائي. وقال:

وغَيثٍ من الوسْمِيِّ حُوٍّ تِلاعُهتبطَّنته بشَيظَم صَلَتانِ

ويجوز أن يكون «أحوى» صفة لـ«ـغثاء». والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسودَ من احتراقه وقِدمه؛ والرَّطب إذا يبِس اسودّ. وقال عبد الرحمن بن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبِس اسودَ من احتراقه، فصار غُثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مَثَل ضربه الله تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.