التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
-الفجر

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { كَلاَّ } ردّ؛ أي ليس الأمر كما يُظَنّ، فليس الغِنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء: «كَلاّ» في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمدُ الله عز وجل على الغنى والفقر. وفي الحديث: "يقول الله عز وجل: كلا إني لا أكرِم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهِين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي"

. قوله تعالى: { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسْرافاً وبِدَاراً أَنْ يَكْبُروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب «يُكْرِمون»، و«يَحُضُّون» و«يأكلون»، و«يُحِبُّونَ» بالياء؛ لأنه تقدّم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الأربعة، على الخطاب والمواجهة؛ كأنه قال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قُدامة بن مظعون وكان يتيماً في حجر أُمية بن خَلَف. { وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون «ولا تَحَاضُّونَ» بفتح التاء والحاء والألف. أي يَحُضُّ بعضهم بعضاً. وأصله تتحاضُّون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عُبيد. ورُوِي عن إبراهيمَ والشَّيْزَرِيّ عن الكسائي والسُّلَمِيّ «تُحَاضُّون» بضم التاء، وهو تُفاعِلون من الحضّ، وهو الحث. { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ } أي ميراث اليتامى. وأصله الوُراث من ورِثت، فأبدلوا الواو تاء؛ كما قالوا في تُجاه وتُخمَة وتُكأَة وتُؤَدة ونحو ذلك. وقد تقدّم. { أَكْلاً لَّمّاً } أي شديداً؛ قاله السُّدّيّ. قيل: «لَمّا»: جمعا؛ من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعاً؛ قاله الحسن وأبو عُبيدة. وأصل اللَّمّ في كلام العرب: الجمع؛ يقال: لَمَمْت الشيء ألُمُّه لَمًّا: إذا جمعته، ومنه يقال: لمّ الله شعثه، أَي جمع ما تفرّق من أموره. قال النابغة:

ولَسْتَ بِمُسْتَبِقٍ أَخاً لا تَلُمُّهعلى شَعَثٍ أَيُّ الرجال المُهَذَّبُ

ومنه قولهم: إن دارك لَمُومَة؛ أي تَلُمّ الناس وتَرُبُّهم وتجمعهم. وقال المِرناق الطائيُّ يمدح علقمة بن سيف:

لأَحبَّنِي حُبّ الصبيّ ولَمَّنِيلَمَّ الهُدِيّ إلى الكرِيم الماجِد

وقال الليث: اللمّ الجمع الشديد؛ ومنه حجر ملموم، وكتِيبة ملمومة. فالآكل يَلُم الثريد، فيجمعه لُقَماً ثم يأكله. وقال مجاهد. يَسفُّه سَفّاً: وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحُطيئة:

إذا كانَ لَمًّا يُتْبع الذمَّ ربَّهفلا قدّسَ الرحمنُ تلك الطواحِنا

يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألَمّ بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورّثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع مِيراثِهم، وتراثهم مع تُراثِهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فَيلُمّ في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفِر بالمال سَهْلاً مَهْلاً، من غير أن يَعرَق فيه جبينه، فيسرِف في إنفاقه، ويأكله أكلاً واسعاً، جامعاً بين المشتهيات، من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوُرّاث البطالون. { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } أي كثيراً، حلاله وحرامه. والجمّ الكثير. يقال: جمّ الشيء يَجُمّ جُموماً، فهو جَمٌّ وجامٌّ. ومنه جمّ الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر:

إن تغفِرِ اللَّهُمَّ تغفِرْ جَمَّاوأَيُّ عبدٍ لك لا أَلمَّا

والجَمَّة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجَموم: البئر الكثيرة الماء. والجُمومُ (بالضم): المصدر؛ يقال: جمّ الماء يجِم جموماً: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها.