التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
١٢٢
-التوبة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدّم؛ إذ لو نفر الكل لضاع مَن وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد ولْيُقِم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلّموه من أحكام الشرع، وما تجدّد نزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالىٰ: { إِلاَّ تَنفِرُواْ } وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وٱبن زيد.

الثانية ـ هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأن المعنىٰ: وما كان المؤمنون لينفروا كافَّةً والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مقيم لا يَنْفر فيتركوه وحده. { فَلَوْلاَ نَفَرَ } بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم. { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } وتبقىٰ بقيّتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا؛ فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه. وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان. ويدل عليه أيضاً قوله تعالىٰ: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] [الأنبياء: 7]. فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { فَلَوْلاَ نَفَرَ } قال الأخفش: أي فهلاّ نفر. { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنىٰ نفس طائفة. وقد تقدّم أن المراد بقوله تعالىٰ: { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } [التوبة: 66] رجل واحد. ولا شك أن المراد هنا جماعةٌ لوجهين؛ أحدهما عقلاً، والآخر لغة. أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } فجاء بضمير الجماعة. قال ٱبن العربيّ: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة هاهنا واحد، ويَعْتضِدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر.

قلت: أنصّ ما يُستدلّ به على أن الواحد يقال له طائفة قولهُ تعالىٰ: { { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [الحجرات: 9] يعني نفْسين. دليله قوله تعالىٰ: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في «ٱقتتلوا» وإن كان ضمير جماعة فأقلّ الجماعة ٱثنان في أحد القولين للعلماء.

الرابعة ـ قوله تعالىٰ: { لِّيَتَفَقَّهُواْ } الضمير في «لِيتَفقَّهُوا، وَلِيُنْذِرُوا» للمقيمين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قاله قتادة ومجاهد. وقال الحسن: هما للفرقة النافرة؛ وٱختاره الطبريّ. ومعنىٰ { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ } أي يتبصّرُوا ويتيقّنوا بما يُريهم الله من الظهور على المشركين ونُصرة الدين. { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } من الكفار. { إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ } من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالىٰ نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم لا يدان لهم بقتالهم وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.

قلت: قول مجاهد وقتادة أبْيَن، أي لتتفقّه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا. وهذا يقتضي الحثّ على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام؛ إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته؛ قاله أبو بكر بن العربيّ.

الخامسة ـ طلب العلم ينقسم قسمين: فرضٌ على الأعيان، كالصلاة والزكاة والصيام.

قلت ـ وفي هذا المعنىٰ جاء الحديث المرويّ "إن طلب العلم فريضة" . روىٰ عبد القدوس بن حبيب: أبو سعيد الوُحَاظيّ عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النَّخَعِيّ قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" . قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث.

وفرضٌ على الكفاية؛ كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه؛ إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم؛ فتعيّن بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسّره الله لعباده وقسّمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.

السادسة ـ طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل؛ روىٰ الترمذيّ من حديث أبي الدّرْدَاء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثةُ الأنبياء وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورَّثُوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" . وروى الدّارِميّ أبو محمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة حدّثنا الأوزاعيّ عن الحسن قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالماً يصلّي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير. والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل هذا العالم الذي يصلّي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم" . أسنده أبو عمر في كتاب (بيان العلم) عن أبي سعيد الخُدْري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي" . وقال ٱبن عباس: أفضل الجهاد من بنى مسجداً يعلم فيه القرآن والفقه والسنة. رواه شُريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيىٰ بن أبي كثير عن عليّ الأزدي قال: أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجداً فتقرىء فيه القرآن وتعلم فيه الفقه. وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة. وقوله عليه السلام: "إن الملائكة لتضع أجنحتها" الحديث يحتمل وجهين: أحدهما أنها تعطف عليه وترحمه؛ كما قال الله تعالىٰ فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله: { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } [الإسراء: 24] أي تواضع لهما. والوجه الآخر ـ أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها؛ لأن في بعض الروايات "وإن الملائكة تفرش أجنحتها" أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها؛ فمن هناك يَسْلَم فلا يحفى إن كان ماشياً ولا يَعْيَا، وتقرُب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق. وقد مضىٰ شيء من هذا المعنىٰ في «آل عمران» عند قوله تعالىٰ: { شَهِدَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 18] الآية، روىٰ عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" . قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟.

قلت: وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث؛ ذكره الثعلبيّ. سمعت شيخنا الأستاذ المقرىء النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجةرحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام: "لا يزال أهل الغَرْب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" إنهم العلماء؛ قال: وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فَيْضة من الدمع. فمعنىٰ "لا يزال أهل الغرب" أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين؛ الحديث. قال الله تعالىٰ: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28].

قلت: وهذا التأويل يَعْضُده قوله عليه السلام في صحيح مسلم: "من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" . وظاهر هذا المساق أن أوّله مرتبط بآخره. والله أعلم.