التفاسير

< >
عرض

فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ
١١
-البلد

الجامع لاحكام القرآن

أي فهلا أنفق ماله الذي أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العَقَبة فيأمن! والاقتحام: الرّمْيُ بالنفس في شيء من غير رَوِية؛ يقال منه: قَحَم في الأَمْر قُحوماً: أي رمى بنفسه فيه من غير روِية. وقَحَّم الفَرَس فارسَه تقحيماً على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفسِ في الشيء: إدخالها فيه من غير روِية. والقُحْمة (بالضم) المَهْلَكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الأعراب القُحْمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقُحَم: صِعاب الطريق. وقال الفرّاء والزجاج: وذكر «لا» مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد «لا» مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يُعيدوها في كلام آخر؛ كقوله تعالى: { { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } [القيامة: 31] { ولا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنون } ». [البقرة: 62] وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه؛ فيجوز أن يكون قوله: «ثم كان من الذِين آمنوا» قائماً مقام التكرير؛ كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جارٍ مجرى الدعاء؛ كقوله: لا نجا ولا سلِم. { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ }؟ قال سفيان بن عُيينة: كل شيء قال فيه «وما أدراك»؟ فإنه أَخْبَر به، وكل شيء قال فيه «وما يدريك»؟ فإنه لم يخبر به. وقال: معنى { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } أي فلم يقتحم العقبة؛ كقول زُهَير:

وكانَ طَوَى كَشْحاً على مُسْتكِنَّةٍفلا هُوَ أَبداها ولم يَتَقدّمِ

أي فلم يبدها ولم يتقدّم. وكذا قال المبرّد وأبو عليّ «لا»: بمعنى لم. وذكره البخارِيّ عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فَسَّر العقبة وركوبها فقال: { فَكُّ رَقَبَةٍ } وكذا وكذا؛ فبين وجوهاً من القُرَب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار؛ تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فكّ الرقاب، وإطعام السَّغْبان، ليجاوز به العقبة؛ فيكون خيراً له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: اقتحام العقبة هاهنا ضرب مَثَل، أي هل تَحَمَّل عِظام الأمور في إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } على الدعاء؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عِظم الذنوب وثِقلها وشدّتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمِل صالحاً، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مَصْعَدُها سبعة آلاف سنة، ومهبِطها سبعة آلاف سنة وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجِسر، فاقتحِمُوها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبِي: هي الصراط يُضْرب على جهنم كحدّ السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلاً وصُعوداً وهُبوطاً. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل: اقتحامه عليه قدرُ ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أَنْجَى الناسِ منها أخفهم حِمْلاً. وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يُعْتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبد الله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضواً منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار، حتى فرجَه بفرجه" . وفي الترمذي عن أبي أُمامة وغيره من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما امرىءٍ مُسْلِمٍ أعتقَ امْرأً مُسْلِماً، كان فَكَاكَهُ من النار، يَجْزِي كل عضو منه عضواً منه، وأيُّما امرأة مسلمة أعتقتْ امرأة مُسلمة، كانت فَكاكَها من النار، يجزي كل عضو منها عضواً منها" . قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقيل: العقبة خلاصه من هول العَرْض. وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر. وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وأنشد بعضهم:

إني بُلِيتُ بأربعٍ يَرْميننَيبالنَّبْل قد نَصَبوا عليّ شِراكا
إبليسُ والدنيا ونفسي والهوَىمن أين أرجو بينهن فَكاكا
يا ربِّ ساعدني بعفوٍ إننيأصبحت لا أرجو لهن سِواكا