التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ
١٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ
١٩
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ
٢٠
-البلد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني: أنه لا يقتحم العقبَة من فكَّ رقبة، أو أطعمَ في يوم ذا مَسْغَبة، حتى يكون من الذين آمنوا؛ أي صدّقوا، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله. فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان، قال الله تعالى في المنافقين: { { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } [التوبة: 54]. "وقالت عائشة: يا رسول الله، إن ابن جُدْعَانَ كان في الجاهلية يصِل الرحِم، ويُطعم الطعام، ويَفُكُّ العاني، ويُعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً ربِّ اغفرْ لي خطيئتي يومَ الدِّين" . وقيل: «ثُمَّ كانَ مِن الذينَ آمَنُوا» أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة؛ نظيره قوله تعالى: { { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82]. وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى. وقيل: أتى بهذه القُرَب لوجه الله، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد " قال حكيم بن حزام بعد ما أسلم: يا رسول الله، إنا كنا نَتَحَنث بأعمالٍ في الجاهلية، فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام: أسلمت على ما أسلفت من الخير" . وقيل: إن «ثم» بمعنى الواو؛ أي وكان هذا المعتِق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين آمنوا. { وَتَوَاصَوْاْ } أي أوصى بعضهم بعضاً. { بِٱلصَّبْرِ } على طاعة الله، وعن معاصيه؛ وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب. { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } أي بالرَّحمة على الخلق؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك رَحِموا اليتيم والمسكين. { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } أي الذين يُوْتَون كتبهم بأيمانهم؛ قاله محمد بن كعب القُرَظيّ وغيره. وقال يحيـى بن سلام: لأنهم مَيامينُ على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أُخِذوا من شِقّ آدم الأيمن. وقيل: لأن منزلتهم عن اليمين؛ قاله مَيمون بن مِهْران. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } أي القرآن. { هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } أي يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ قاله محمد بن كعب. يحيـى بن سلام: لأنهم مَشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أُخِذوا من شِق آدم الأيسر. ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار.

قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يُقال: إن أصحاب الميمنة أصحابُ الجنة، وأصحاب المَشأَمة أصحابُ النار؛ قال الله تعالى: { { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } [الواقعة: 27 ـ 28]، وقال: { { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } [الواقعة: 41 ـ 42]. وما كان مثله. ومعنى { مُؤْصَدَة } أي مطبَقة مُغْلَقة. قال:

تَحِنُّ إلى أجبال مكة ناقَتِيومِن دُونِها أبوابُ صنعاءَ مُؤْصَدَهْ

وقيل: مُبْهمة، لا يُدْرَى ما داخلُها. وأهل اللغة يقولون: أَوْصَدْتُ البابَ وآصَدْتُهُ؛ أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم «الوِصاد»، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشَّيْزَريُّ عن الكسائيّ { مُؤْصَدَة } بالهمز هنا، وفي «الهمزة». الباقون بلا همز. وهما لُغتان. وعن أبي بكر بن عياش قال: لنا إمام يهمز { مُؤْصَدَة }، فأشتهي أن أسُدّ أذنيّ إذا سمعته.