التفاسير

< >
عرض

وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } أي ليس يتصدق ليجازِيَ على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: "عَذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول أَحَد أَحَد؛ فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أحد ـ يعني الله تعالى ـ ينجيك ثم قال لأبي بكر: يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلاً من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليدٍ كانت له عنده" ؛ فنزلت { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ } أي عند أبي بكر { مِن نِّعْمَةٍ }، أي من يدٍ ومِنَّة، { تُجْزَىٰ } بل { ٱبْتِغَآءَ } بما فعل { وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ }. وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبيّ بن خلف بِلالاً، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: { { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 4]. وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أَتَبِيعُنِيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنِسطاس، وكان نِسْطاس عبداً لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ، وكان مشركاً، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له مالُه، فأبى، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده؛ فنزلت: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ } أي لكن ابتغاء؛ فهو استثناء منقطع؛ فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حماراً. ويجوز الرفع. وقرأ يحيـى بن وثاب «إلا ابتغاءُ وجهِ ربه» بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:

أضحتْ خَلاءً قِفاراً لا أنيسَ بهاإلا الجآذرَ والظلمانَ تختلفُ

وقول القائل:

وبلدةٍ ليسَ بها أنيسُإلا اليعافيرُ وإلا العِيسُ

وفي التنزيل: { { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء: 66] وقد تقدم. { وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } أي مَرْضاته وما يقرّب منه. و«الأعلى» من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون «ابتغاء وجهِ ربه» مفعولاً له على المعنى؛ لأن معنى الكلام: لا يؤتِي ماله إلا ابتغاء وجهِ ربه، لا لمكافأة نعمته. { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } أي سوف يعطيه في الجنة ما يرْضى؛ وذلك أن يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حَيّان التيميّ عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِم الله أبا بكر! زوجنِي ابنته، وحملني إلى دار الهِجرة، وأعتق بلالاً من ماله" . ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله؟ قال: بل لعمل الله قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا (يعني بلالاً رضي الله عنه). وقال عطاء ـ وروي عن ابن عباس ـ: إن السورة نزلت في أبي الدَّحداح؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له؛ فيما ذكر الثعلبيّ عن عطاء. وقال القشيريّ عن ابن عباس: بأربعين نخلة؛ ولم يسم الرجل. قال عطاء: "كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحِها في دار جارٍ له، فيتناوله صبيانه، فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تبيعها بنخلة في الجنة؟ فأبى؛ فخرج فلقِيه أبو الدَّحداح فقال: هل لك أن تبِيعنِيها بــحُسْنَى: حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدَّحداح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: نعم، والذي نفسي بيده فقال: هي لك يا رسول الله؛ فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم جار الأنصاريّ، فقال: خذها فنزلت { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة" . { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } يعني أبا الدحداح. { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي بالثواب. { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ }: يعني الجنة. { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ } يعني الأنصاريّ. { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي بالثواب. { { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } [الليل: 10]، يعني جهنم. { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } أي مات. إلى قوله: { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى } يعني بذلك الخزرجِيّ؛ وكان منافقاً، فمات على نفاقه. { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } يعني أبا الدحداح. { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } في ثمن تلك النخلة. { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } يكافئه عليها؛ يعني أبا الدحداح. { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } إذا أدخله الله الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبراً آخر لأبي الدحداح في سورة «البقرة»، عند قوله: { { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245]. والله تعالى أعلم.