التفاسير

< >
عرض

وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ
١
وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ
٢
وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
٤
-الليل

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } أي يُغَطِّي. ولم يذكر معه مفعولاً للعلم به. وقيل: يغشى النهار. وقيل: الأرض. وقيل: الخلائق. وقيل: يغشى كل شيء بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أولُ ما خلق الله النور والظلمة، ثم مَيَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلِماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصِراً. { وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل. وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى؛ (فَما): مصدرية على ما تقدم. وأهل مكة يقولون للرعد: سُبْحان ما سَبَّحتَ لَه! (فما) على هذا بمعنى (مَنْ)، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدّم. وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والأنثى؛ فتكون «مِنْ» مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفاً. وقال أبو عبيدة: «وما خلق» أي مَنْ خلق. وكذا قوله: «والسماءِ وما بناها»، «ونفس وما سوّاها»، «ما» في هذه المواضع بمعنى منْ. ورُوي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ «والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى» ويسقط «وما خلق». وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم، أنا. قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ }؟ قال: سمعته يقرأ «والليلِ إذا يَغْشَى. والذكر والأنثى» قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «وما خلق» فلا أتابعهم. قال أبو بكر الأنباريّ: وحدثنا محمد بن يحيـى المروزيّ قال حدثنا محمد قال حدّثنا أبو أحمد الزبيريّ قال حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أنا الرازق ذو القوّة المتِين»؛ قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود؛ بخلاف الإجماع له، وأن حمزة وعاصماً يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة، وما يبنى على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولاً معروفاً، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة.

وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحوّاء؛ قاله ابن عباس والحسن والكلبيّ. الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم؛ لأن الله تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته. { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } هذا جواب القسم. والمعنى: إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل؛ فساعٍ في فَكاك نفسه، وساعٍ في عَطَبها؛ يدل عليه قوله عليه السلام: "الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتِقها، وبائع نفسه فموبِقها" . وشتى: واحده شتيت؛ مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إنّ عملكم لمتباعد بعضه من بعض؛ لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاصٍ. وقيل: «لشتى» أي لمختلف الجزاء؛ فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار. وقيل: أي لمختلف الأخلاق؛ فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل؛ وشبه ذلك.