التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ
٥
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٦
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ
٧
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ
٨
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٩
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
١٠
-الليل

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي الله عنه؛ وقاله عامة المفسرين. فروِي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يُعْتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني! لو أنك أعتقت رجالاً جُلْداً يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد. وعن ابن عباس في قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } أي بذل. { وَٱتَّقَىٰ } أي محارم الله التي نَهَى عنها. { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي بالخَلَف من الله تعالى على عطائه. { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ومَلَكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تَلَفاً" . وروي من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم غَرَبَت شمسه إلا بُعِث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثَّقَلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأَعطِ ممسِكاً تلفاً" فأنزل الله تعالى في ذلك في القرآن { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ }... الآيات. وقال أهل التفسير: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } المُعْسِرين. وقال قتادة: أعطى حق الله تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي بلا إله إلا الله؛ قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضاً. وقال مجاهد: بالجنة؛ دليله قوله تعالى: { { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26]... الآية. وقال قتادة: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن: بالخَلَف من عطائه؛ وهو اختيار الطبريّ. وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة.

الثانية: قوله تعالى: { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم: «لليسرى» للجنة. وفي الصحيحين والترمذي "عن عليّ رضي الله عنه قال: كنا في جنازة بالبقِيع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: ما مِن نفسٍ منفوسةٍ إلا قد كتِب مدخلها فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكِل على كتابنا؟ فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال: بل اعملوا فكل ميسر؛ أما من كان من أهل السعادة فإنه يُيَسَّر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء ـ ثم قرأ ـ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ }" لفظ الترمذيّ. وقال فيه: حديث حسن صحيح. "وسأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شيء يستأنف؟ فقال عليه السلام: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له" قالا: فالآن نجِد ونعمل.

الثالثة: قوله تعالى: { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ } أي ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيراً. وقد تقدّم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة «آل عمران». وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: «وأما من بخِل واستغنى» يقول: بخِل بمالِه، واستغنى عن ربه. { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: «وكذب بِالحسنى» قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال: «بالحسنى» أي بلا إلٰه إلا الله. { فَسَنُيَسِّرُهُ } أي نسهل طريقه. { لِلْعُسْرَىٰ } أي للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدّم: أن الملك ينادي صباحاً ومساءً: "اللهم أعطِ منفِقاً خلفاً، وأعط ممسِكاً تلفاً" . رواه أبو الدرداء.

مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: { { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3]، وقوله: { { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [البقرة: 274] إلى غير ذلك من الآيات ـ أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجراً وحمداً فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذماً أو عقاباً فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجراً ولا حمداً، وإنما استوجب به ذماً فليس بجواد، وإنما هو مسرف مذموم، وهو من المبذِّرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين، وأوجب الحجْر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقاباً ولا ذماً، واستوجب به حمداً، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم.

الرابعة: قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: «فسنيسره للعسرى»؟ وهل في العسرى تيسير؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: { { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21]، والبِشارة في الأصل على المفرح والسارّ، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعاً. قال الفراء: وقوله تعالى: { فَسَنُيَسِّرُهُ }: سنهيئه. والعرب تقول: قد يَسَّرَتِ الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال:

هما سيدانا يزعمان وإنمايَسُودانِنا أن يَسَّرتْ غَنماهما