التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٦
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٧
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٨
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
١٩
أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ
٢٠
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢١
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٢٢
-هود

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } مطلقاً في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } لأنه لم يبق لهم ثواب في الآخرة، أو لم يكن لأنهم لم يريدوا به وجه الله والعمدة في اقتضاء ثوابها هو الإِخلاص، ويجوز تعليق الظرف بـ{ صَنَعُواْ } على أن الضمير لـ { ٱلدُّنْيَا }. { وَبَـٰطِلٌ } في نفسه. { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لأنه لم يعمل على ما ينبغي، وكأن كل واحدة من الجملتين علة لما قبلها. وقرىء «باطلاً» على أنه مفعول يعملون و { مَا } إبهامية أو في معنى المصدر كقوله:

وَلاَ خَارِجاً منْ في زُور كَلاَم

وبطل على الفعل { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص. وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب. { وَيَتْلُوهُ } ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل. { شَاهِدٌ مّنْهُ } شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن. { وَمِن قَبْلِهِ } ومن قبل القرآن. { كِتَابُ مُوسَىٰ } يعني التوراة فإنها أيضاً تتلوه في التصديق، أو البينة هو القرآن { وَيَتْلُوهُ } من التلاوة والشاهد جبريل، أو لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه. والضمير في { يتلوه } إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ } جملة مبتدأة. وقرىء { كِتَابٌ } بالنصب عطفاً على الضمير في { يتلوه } أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة دالة على أنه حق كقوله: { { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْرٰءيلَ } [الأحقاف: 10] ويقرأ من قبل القرآن التوراة. { إِمَاماً } كتاباً مؤتماً به في الدين. { وَرَحْمَةً } على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين. { أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى من كان على بينة. { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالقرآن. { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ } من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. { فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ } يردها لا محالة. { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } من الموعد، أو القرآن وقرىء «مُرْيَةٍ» بالضم وهما الشك. { إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } لقلة نظرهم واختلال فكرهم.

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله. { أُوْلَـٰئِكَ } أي الكاذبون. { يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبّهِمْ } في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم. { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ } من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم، وهو جمع شاهد كأصحاب أو شهيد كأشراف جمع شريف. { هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله.

{ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } عن دينه. { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } والحال أنهم كافرون بالآخرة وتكريرهم لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.

{ أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم. { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } استئناف وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «يُضَّعف» بالتشديد. { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } لتصامهم عن الحق وبغضهم له. { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } لتعاميهم عن آيات الله، وكأنه العلة لمضاعفة العذاب. وقيل هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله: { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } فإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله: { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } اعتراض.

{ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى.. { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الآلهة وشفاعتها، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة. { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } لا أحد أبين وأكثر خسراناً منهم.