التفاسير

< >
عرض

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
٣٠
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
٣١
وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٣٢
أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٣٣
لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ
٣٤
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ
٣٥
وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
٣٦
-الرعد

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ كَذٰلِكَ } مثل ذلك يعني إرسال الرسل قبلك. { أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا } تقدمتها. { أُمَمٌ } أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم. { لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك. { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ } وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا نعمه وخصوصاً ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم، وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية عليهم. وقيل نزلت في مشركي أهل مكة حين قيل لهم { { ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الفرقان: 60] { قُلْ هُوَ رَبّى } أي الرحمن خالقي ومتولي أمري. { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } لا مستحق للعبادة سواه. { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في نصرتي عليكم. { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } مرجعي ومرجعكم.

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ } شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن، أو المبالغة في عناد الكفرة وتصميمهم أي: ولو أن كتاباً زعزعت به الجبال عن مقارها. { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ } تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. { أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ } فتسمع فتقرؤه، أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإِعجاز والنهاية في التذكير والإِنذار، أو لما آمنوا به كقوله: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ } [الأنعام: 111] الآية. وقيل إن قريشاً قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع، أو سخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام، أو ابعث لنا به قصي بن كلاب وغيره من آبائنا ليكلمونا فيك، فنزلت. وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير. وقيل الجواب مقدم وهو قوله: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ } وما بينهما اعتراض وتذكير { كلـٰم } خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي. { بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعًا } بل لله القدرة على كل شيءٍ وهو إضراب عما تضمنته { لَوْ } من معنى النفي أي: بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك قوله: { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم، وذهب أكثرهم إلى أن معناه أفلم يعلم لما روي أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين قرؤوا «أفلم يتبين»، وهو تفسيره وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوماً ولذلك علقه بقوله: { أَن لَّوْ يَشَاءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعًا } فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييأس الذين آمنوا عن إيمانهم علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً أو { بآمنوا }. { وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } من الكفر وسوء الأعمال. { قَارِعَةٌ } داهية تقرعهم وتقلقهم. { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ } ليفزعون منها ويتطاير إليهم شررها. وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يزال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم، وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه حل بجيشه قريباً من دارهم عام الحديبية. { حَتَّىٰ يَأْتِىَ وَعْدُ ٱللَّهِ } الموت أو القيامة أو فتح مكة. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } لامتناع الكذب في كلامه.

{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه، والإملاء أن يترك ملاوة من الزمان في دعة وأمن. { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي عقابي إياهم.

{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ } رقيب عليها { بِمَا كَسَبَتْ } من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده شيء من جزائهم، والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك. { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ } استئناف أو عطف على { كَسَبَتْ } إن جعلت «ما» مصدرية، أو لم يوحدوه وجعلوا عطف عليه ويكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على أنه المستحق للعبادة وقوله: { قُلْ سَمُّوهُمْ } تنبيه على أن هؤلاء الشركاء لا يستحقونها، والمعنى صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة. { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } بل أتنبئونه. وقرىء «تنبئونه» بالتخفيف. { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى ٱلأَرْضِ } بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم، أو بصفات لهم يستحقونها لأجلها لا يعلمها وهو العالم بكل شيء. { أَم بِظَـٰهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار معنى كتسمية الزنجي كافوراً وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإِعجاز. { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } تمويههم فتخيلوا أباطيل ثم خالوها حقاً، أو كيدهم للإسلام بشركهم. { وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } سبيل الحق، وقرأ ابن كثير. ونافع وأبو عمرو وابن عامر { وَصَدُّواْ } بالفتح أي وصدوا الناس عن الإِيمان، وقرىء بالكسر «وَصَدُ» بالتنوين. { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ } يخذله. { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يوفقه للهدى.

{ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب. { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ } لشدته ودوامه. { وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ } من عذابه أو من رحمته. { مِن وَاقٍ } حافظ.

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } صفتها التي هي مثل في الغرابة، وهو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقيل خبره. { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } على طريقة قولك صفة زيد أسمر، أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، أو على زيادة المثل وهو على قول سيبويه حال من العائد أو المحذوف أو من الصلة. { أُكُلُهَا دَائِمٌ } لا ينقطع ثمرها. { وِظِلُّهَا } أي وظلها كذلك لا ينسخ في الدنيا بالشمس { تِلْكَ } أي الجنة الموصوفة. { عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } مآلهم ومنتهى أمرهم. { وَّعُقْبَى ٱلْكَـٰفِرِينَ ٱلنَّارُ } لا غير، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين.

{ وَٱلَّذِينَ اتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني المسلمين من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة، أو عامتهم فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم. { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ } يعني كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما. { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرفوه منها. { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ } جواب المنكرين أي قل لهم إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وأوحده، وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره، وأما ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإِلهية في جزئيات الأحكام. وقرىء { وَلاَ أُشْرِكُ } بالرفع على الاستئناف. { إِلَيْهِ ٱدْعُواْ } لا إلى غيره. { وَإِلَيْهِ مَآبِ } وإليه مرجعي للجزاء لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء، وأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه.