{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـٰيِشَ } تعيشون بها من المطاعم والملابس. وقرىء «معائش» بالهمزة الى التشبيه بشمائل: { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرٰزِقِينَ } عطف على { مَعَـٰيِشَ } أو على محل { لَكُمْ }، ويريد به العيال والخدم والمماليك وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظناً كاذباً، فإن الله يرزقهم وإياهم، وفذلكة الآية الاستدلال يجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه، ثم بالغ في ذلك وقال:
{ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. { وَمَا نُنَزِّلُهُ } من بقاع القدرة. { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } حده الحكمة وتعلقت به المشيئة، فإن تخصيص بعضها بالإِيجاد في بعض الأوقات مشتملاً على بعض الصفات والحالات لا بد له من مخصص حكيم.
{ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } حوامل، شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، أو ملقحات للشجر ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله:
وَمُخْتَبِـطٌ مِمَّـا تُطِيـحُ الطَـوَائِـحُ
وقرىء { وَأَرْسَلْنَا ٱلرّيَاحَ } على تأويل الجنس. { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } فجعلناه لكم سقيا. { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـٰزِنِينَ } قادرين متمكنين من إخراجه، نفى عنهم ما أثبته لنفسه، أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، وذلك أيضاً يدل على المدبر الحكيم كما تدل حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مخصص.{ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِِي } بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها. { وَنُمِيتُ } بإزالتها وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات وتكرير الضمير للدلالة على الحصر. { وَنَحْنُ ٱلْوٰرِثُونَ } الباقون إذا مات الخلائق كلها.
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأخِرِينَ } من استقدم ولادة وموتاً ومن استأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد، أو من تقدم في الإِسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، أو تأخر لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وقيل رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت. وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظر إليها وتأخر بعض ليبصرها فنزلت.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } لا محالة للجزاء، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غير، وتصدير الجملة بـ { إِنَّ } لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرح به بقوله: { إِنَّهُ حَكِيمٌ } باهر الحكمة متقن في أفعاله. { عَلِيمٌ } وسع علمه كل شيء.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن صَلْصَـٰلٍ } من طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. وقيل هو من صلصل إذا أنتن تضعيف صل. { مّنْ حَمَإٍ } طين تغير وأسود من طول مجاورة الماء، وهو صفة صلصال أي كائن { مِّنْ حَمَإٍ }. { مَّسْنُونٍ } مصور من سنه الوجه، أو منصوب لييبس ويتصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن وهو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإن ما يسيل بينهما يكون منتناً ويسمى السنين.
{ وَٱلْجَآنَّ } أبا الجن. وقيل ابليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإِنسان، لأن تشعب الجنس لما كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وانتصابه بفعل يفسره. { خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ } من قبل خلق الإنسان. { مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة، فضلاً عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي، وقوله: { مّن نَّارٍ } باعتبار الغالب كقوله: { خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } ومساق الآية كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول للجمع والإِحياء.
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله: { لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّى خَـٰلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـٰلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }. { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } عدلت خلقته وهيأته لنفخ الروح فيه. { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه الحيوانية فيسري حاملاً لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في «النساء». { فَقَعُواْ لَهُ } فاسقطوا له. { سَـٰجِدِينَ } أمر من وقع يقع.