التفاسير

< >
عرض

فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١١٤
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٥
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
١١٦
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١١٧
وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٨
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٩
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٠
-النحل

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـلاً طَيّباً } أمرهم بأكل ما أحل الله لهم وشكر ما أنعم عليهم بعدما زجرهم عن الكفر وهددهم عليه بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم، صداً لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } تطيعون، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته.

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما أمرهم بتناول ما أحل لهم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم، ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال:

{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } كما قالوا { مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } [الأنعام: 139] الآية، ومقتضى سياق الكلام وتصدير الجملة بإنما حصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل: كالسباع والحمر الأهلية، وانتصاب { ٱلْكَذِبَ } بـ { لاَ تَقُولُواْ } و { هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حلال وهذا حرام، أو مفعول { لاَ تَقُولُواْ }، و { ٱلْكَذِبَ } منتصب بـ { تَصِفُ } وما مصدرية أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي: لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل، ووصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب كأن حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتكم تصفها وتعرفها بكلامهم هذا، ولذلك عد من تصحيح الكلام كقولهم: وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر. وقرىء { ٱلْكَذِبَ } بالجر بدلاً من «ما»، و { ٱلْكَذِبَ } جمع كذوب أو كذاب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الذم أو بمعنى الكلم الكواذب. { لّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } تعليل لا يتضمن الغرض. { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } لما كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب نفي عنهم الفلاح وبينه بقوله:

{ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ } أي ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة.

{ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي في سورة «الأنعام» في قوله: { { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [الأنعام: 146] { مِن قَبْلُ } متعلق بـ { قَصَصْنَا } أو بـ { حَرَّمْنَا }. { وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ } بالتحريم. { وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.

{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ } بسببها أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة، والسوء يعم الافتراء على الله وغيره. { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة. { لَغَفُورٌ } لذلك السوء. { رَّحِيمٌ } يثيب على الإنابة.

{ إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً } لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله:

لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدٍ

وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله، أو لأنه كان وحده مؤمناً وكان سائر الناس كفاراً. وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيرته كقوله: { إِنّي جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة: 124] { قَـٰنِتًا لِلَّهِ } مطيعاً له قائماً بأوامره. { حَنِيفاً } مائلاً عن الباطل. { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } كما زعموا فإن قريشاً كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم.