التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٧
وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨
وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
١٠
يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١١
وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٢
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٣
وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٤
وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥
وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
١٦
-النحل

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ } جماد لا حس بها ولا حراك سيالة لا تحفظ الوضع والشكل. { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } منطيق مجادل. { مُّبِينٌ } للحجة أو خصيم مكافح لخالقه قائل: { { مِنْ يُحْيِىٰ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] روي أن أُبَي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمَّ. فنزلت.

{ وَٱلأَنْعَـٰمَ } الإِبل والبقر والغنم وانتصابها بمضمر يفسره. { خَلَقَهَا لَكُمْ } أو بالعطف على الإِنسان، وخلقها لكم بيان ما خلقت لأجله وما بعده تفصيل له. { فِيهَا دِفْءٌ } ما يدفأ به فيقي البرد. { وَمَنَـٰفِعُ } نسلها ودرها وظهورها، وإنما عبر عنها بالمنافع ليتناول عوضها. { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، أو لأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من سائر الحيوانات المأكولة فعلى سبيل التداوي أو التفكه.

{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } زينة. { حِينَ تُرِيحُونَ } تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي. { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } تخرجونها بالغداة إلى المراعي فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها، وتقديم الاراحة لأن الجمال فيها أظهر فإنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرىء «حيناً» على أن { تُرِيحُونَ } { وتسرحون } وصفان له بمعنى { تُرِيحُونَ } فيه { وتسرحون } فيه.

{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أحمالكم. { إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ } أي إن لم تكن الأنعام ولم تخلق فضلاً أن تحملوها على ظهوركم إليه. { إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } إلا بكلفة ومشقة. وقرىء بالفتح وهو لغة فيه. وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه وأصله الصدع والمكسور بمعنى النصف، كأنه ذهب نصف قوته بالتعب. { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم.

{ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } عطف على { ٱلأَنْعَـٰمِ }. { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة. وقيل هي معطوفة على محل { لِتَرْكَبُوهَا } وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله، ولأن المقصود مِنْ خَلْقِهَا الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض. وقرىء بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة { لِتَرْكَبُوهَا } أو مصدراً في موضع الحال من أحد الضميرين أي: متزينين أو متزيناً بها، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالباً أن لا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالباً احتياجاً ضرورياً أو غير ضروري أجمل غيرها، ويجوز أن يكون إخباراً بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، وأن يراد به ما خلق في الجنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر.

{ وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق، أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلاً، أو عليه قصد السبيل يصل إليه من يسلكه لا محالة يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه، والمراد من { ٱلسَّبِيلِ } الجنس ولذلك أضاف إليه الـ { قَصْدُ } وقال: { وَمِنْهَا جَائِرٌ } حائد عن القصد أو عن الله، وتغيير الأسلوب لأنه ليس بحق على الله تعالى أن يبين طرق الضلالة، أو لأن المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. وقرىء و «منكم جائر» أي عن القصد. { وَلَوْ شَاء } الله. { لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء.

{ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء } من السحاب أو من جانب السماء. { مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } ما تشربونه، { وَلَكُمْ } صلة { أَنَزلَ } أو خبر { شَرَابٌ } و { مِنْ } تبعيضية متعلقة به، وتقديمها يوهم حصر المشروب فيه ولا بأس به لأن مياه العيون والآبار منه لقوله: { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ } [الزمر: 21] وقوله: { فَأَسْكَنَّاهُ فِي ٱلأَرْضِ } [المؤمنون: 18] { وَمِنْهُ شَجَرٌ } ومنه يكون شجر يعني الشجر الذي ترعاه المواشي. وقيل كل ما نبت على الأرض شجر قال:

يَعْلِفُهَا اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَر وَالخَيْلُ فِي إِطْعَامِهَا اللَّحْم ضَرَر

{ فِيهِ تُسِيمُونَ } ترعون، من سامت الماشية وأسامها صاحبها، وأصله السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات.

{ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ } وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم. { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلاعْنَـٰبَ وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } وبعض كلها إذا لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار، ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانياً هو أشرف الأغذية، ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } على وجود الصانع وحكمته، فإن من تأمل أن الحبة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجرة، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها. ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع مع اتحاد المواد ونسبة الطبائع السفلية والتأثيرات الفلكية إلى الكل، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ولعل فصل الآية به لذلك.

{ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ } بأن هيأها لمنافعكم. { مُسَخَّرٰتٌ بِأَمْرِهِ } حال من الجميع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبرها كيف شاء، أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه، وفيه إيذان بالجواب عما عسى أن يقال إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها، فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها أيضاً ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجود المحتملة، فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعاً للدور والتسلسل، أو مصدر ميمي جمع لاختلاف الأنواع. وقرأ حفص { وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرٰتٌ } على الابتداء والخبر فيكون تعميماً للحكم بعد تخصيصه ورفع ابن عامر { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } أيضاً. { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } جمع الآية، وذكر العقل لأنها تدل أنواعاً من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة غير محوجة إلى استيفاء فكر كأحوال النبات.

{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } عطف على { ٱلَّيْلَ }، أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أصنافه فإنها تتخالف باللون غالباً. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } إن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم.

{ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ } جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص. { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّاً } هو السمك، ووصفه بالطراوة لأنه أرطب اللحوم يسرع إليه الفساد فيسارع إلى أكله، ولإِظهار قدرته في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق، وتمسك به مالك والثوري على أن من حلف أن لا يأكل لحماً حنث بأكل السمك. وأجيب عنه بأن مبنى الإِيمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإِطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة ولا يحنث الخالق على أن لا يركب دابة بركوبه. { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } كاللؤلؤ والمرجان أي تلبسها نساؤكم، فأسند إليهم لأنهن من جملتهم ولأنهن يتزين بها لأجلهم. { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ } السفن. { مَوَاخِرَ فِيهِ } جواري فيه تشقه بحيزومها، من المخر وهو شق الماء. وقيل صوت جري الفلك. { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } من سعة رزقه بركوبها للتجارة. { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تعرفون نعم الله تعالى فتقومون بحقها، ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل المهالك سبباً للانتفاع وتحصيل المعاش.

{ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } جبالاً رواسي. { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهة أن تميل بكم وتضطرب، وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع، وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك، أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال. { وَأَنْهَـٰراً } وجعل فيها أنهاراً لأن ألقى فيه معناه. { وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لمقاصدكم، أو إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.

{ وَعَلامَـٰتٍ } معالم يستدل بها السابلة من جبل وسهل وريح ونحو ذلك. { وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } بالليل في البراري والبحار، والمراد بالنجم الجنس ويدل عليه قراءة «وَبِٱلنَّجْمِ» بضمتين وضمة وسكون على الجمع. وقيل الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي، ولعل الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم.