التفاسير

< >
عرض

وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
٥٦
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
٥٧
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
٥٨
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٥٩
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٠
وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٦٤
وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٥
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
-النحل

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } أي وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله، { وَمَا } شرطية أو موصولة متضمنة معنى الشرط باعتبار الإِخبار دون الحصول، فإن استقرار النعمة بهم يكون سبباً للإِخبار بأنها من الله لا لحصولها منه. { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـأَرُونَ } فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.

{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم } وهم كفاركم. { بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } بعبادة غيره، هذا إذا كان الخطاب عاماً، فإن كان خاصاً بالمشركين كان من للبيان كأنه قال: إذا فريق وهم أنتم، ويجوز أن تكون من للتبعيض على أن يعتبر بعضهم كقوله تعالى: { فَلَمَّا نَجَّـٰهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }

[لقمان: 32] { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـٰهُمْ } من نعمة الكشف عنهم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعمة، أو إنكار كونها من الله تعالى. { فَتَمَتَّعُواْ } أمر تهديد. { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أغلظ وعيده، وقرىء «فيمتعوا» مبنياً للمفعول عطفاً على { لِيَكْفُرُواْ }، وعلى هذا جاز أن تكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد والفاء للجواب.

{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد فيكون الضمير { لِمَا }، أو التي لا يعلمونها فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم على أن العائد إلى ما محذوف، أو لجهلهم على أن ما مصدرية والمجعول له محذوف للعلم به. { نَصِيبًا مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ } من الزروع والأنعام. { تَٱللَّهِ لَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } من أنها آلهة حقيقة بالتقرب إليها وهو وعيد لهم عليه.

{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَـٰتِ } كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله. { سُبْحَـٰنَهُ } تنزيه له من قولهم، أو تعجب منه. { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني البنين، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء والنصب بالعطف على البنات على أن الجعل بمعنى الاختيار، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف.

{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ } أخبر بولادتها. { ظَلَّ وَجْهُهُ } صار أو دام النهار كله. { مُسْوَدّا } من الكآبة والحياء من الناس. واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير. { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء غيظاً من المرأة.

{ يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ } يستخفى منهم. { مِن سُوء مَا بُشِّرَ بِهِ }. من سوء المبشر به عرفاً. { أَيُمْسِكُهُ } محدثاً نفسه متفكراً في أن يتركه. { عَلَىٰ هُونٍ } ذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ } أي يخفيه فيه ويئده، وتذكير الضمير للفظ { مَا } وقرىء بالتأنيث فيهما. { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محله عندهم.

{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } صفة السوء وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهاراً بهم وكراهة الإِناث ووأدهن خشية الإِملاق. { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقين. { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } المنفرد بكمال القدرة والحكمة.

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم. { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } على الأرض، وإنما أضمرها من غير ذكر للدلالة الناس والدابة عليها. { مِن دَابَّةٍ } قط بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة. وقيل لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء. { وَلٰكِن يُؤَخِرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } سماه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا. { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } بل هلكوا أو عذبوا حينئذ لا محالة، ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلهم ظالمين حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم.

{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة، والاستخفاف بالرسل وأراذل الأموال. { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } مع ذلك وهو. { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي عند الله كقوله: { وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَىٰ رَبّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50] وقرىء { ٱلْكَذِبَ } جمع كذوب صفة للألسنة. { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } رد لكلامهم وإثبات لضده. { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } مقدمون إلى النار من أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. وقرأ نافع بكسر الراء على أنه من الإِفراط في المعاصي. وقرىء بالتشديد مفتوحاً من فرطته في طلب الماء ومكسوراً من التفريط في الطاعات.

{ تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـِّنُ أَعْمَالَهُمْ } فأصروا على قبائحها وكفروا بالمرسلين. { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } أي في الدنيا، وعبر باليوم عن زمانها أو فهو وليهم حين كان يزين لهم، أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، ويجوز أن يكون الضمير لقريش أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم وهو ولي هؤلاء اليوم يغريهم ويغويهم، وإن يقدر مضاف أي فهو ولي أمثالهم، والولي القرين أو الناصر فيكون نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في القيامة.

{ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ } للناس. { ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } من التوحيد والقدر وأحوال المعاد وأحكام الأفعال. { وَهُدَىً وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } معطوفان على محل لتبين فإنهما فعلا المنزل بخلاف التبيين.

{ وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها. { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع تدبر وإنصاف.

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً } دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم. { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ } استئناف لبيان العبرة، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا للفظ وأنثه في سورة «المؤمنين» للمعنى، فإن { ٱلأَنْعَـٰمِ } اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأكياس، ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو لواحده أو له على المعنى، فإن المراد به الجنس. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب { نُّسْقِيكُمْ } بالفتح هنا وفي «المؤمنين». { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا } فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهو الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً، ولعله إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن، لأنهما لا يتكونان في الكرش بل الكبد يجذب صفارة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقي ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضماً ثانياً فيحدث أخلاطاً أربعة معها مائية، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها فيجري إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم، ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولاً إلى الرحم لأجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض فيصير لبناً، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته، و { مِنْ } الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية كقولك: سقيت من الحوض، لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإِسقاء وهي متعلقة بـ { نُّسْقِيكُمْ } أو حال من { لَّبَنًا } قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة. { خَالِصًا } صافياً لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } سهل المرور في حلقهم، وقرىء «سِّيغاً» بالتشديد والتخفيف.