التفاسير

< >
عرض

أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً
٦٨
أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً
٦٩
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
٧٠
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧١
وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً
٧٢
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
٧٣
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً
٧٤
-الإسراء

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ أَفَأَمِنتُمْ } الهمزة فيه للإِنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإِعراض، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرّ } أن يقلبه الله وأنتم عليه، أو يقلبه بسببكم فبكم حال أو صلة ليخسف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيه وفي الأربعة التي بعده، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل كفروا وأعرضوا وأن الجوانب والجهات في قدرته سواء لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك. { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } ريحاً تحصب أي ترمي بالحصباء { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } يحفظكم من ذلك فإنه لا راد لفضله.

{ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } في البحر. { تَارَةً أُخْرَىٰ } بخلق دواع تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه. { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ ٱلرّيحِ } لا تمر بشيء إلا قصفته أي كسرته. { فَيُغْرِقَكُم } وعن يعقوب بالتاء على إسناده إلى ضمير { ٱلرّيحَ }. { بِمَا كَفَرْتُمْ } بسبب إشراككم أو كفرانكم نعمة الإِنجاء. { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } مطالباً يتبعنا بانتصار أو صرف.

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل والإِفهام بالنطق والإِشارة والخط والتهدي، أو أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحضر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره ابن عباس: وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده. { وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه، أو حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء. { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم. { وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة، والمستثنى جنس الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر، وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف.

{ يَوْمَ نَدْعُو } نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه { وَلاَ يُظْلَمُونَ }، وقرىء «يدعو» و «يدعي» و «يدعو» على قلب الألف واواً في لغة من يقول أفعو في أفعى، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله: { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأنبياء: 3] أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع، وهو قد يقدر كما في «يدعي». { كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ } بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين. وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال. وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم. وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف، والحكمة في ذلك، إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. { فَمَنْ أُوتِىَ } من المدعوين. { كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } أي كتاب عمله. { فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَءونَ كِتَـٰبَهُمْ } ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه. { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله:

{ وَمَن كَانَ فِى هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلأَخِرَةِ أَعْمَىٰ } أيضاً مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة. { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة. وقيل لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار من فاقد الحاسة. وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو ويعقوب، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت، فإن ألفه واقعة في الطرف لفظاً وحكماً فكانت معرضة للامالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية، وقد أمالهما حمزة والكسائي وأبو بكر، وقرأ ورش بين بين فيهما.

{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا، وكل رباً لنا فهو لنا وكل رباً علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني. وقيل في قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك. وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى: أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال. { عَنِ ٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من الأحكام { لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } غير ما أوحينا إليك. { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك ولياً لهم بريئاً من ولايتي.

{ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـٰكَ } ولولا تثبيتنا إياك. { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، والمعنى أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون فضلاً أن تركن إليهم، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هَمَّ بإجابتهم مع قوة الدواعي. إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.