التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً
٣٠
أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
٣١
وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً
٣٢
كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً
٣٣
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً
٣٤
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً
٣٥
وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً
٣٦
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً
٣٧
-الكهف

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } خبر إن الأولى وهي الثانية بما في حيزها، والراجع محذوف تقديره من أحسن عملاً منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملاً كما هو مستغنى عنه في قولك: نعم الرجل زيد، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملاً لا يحسن اطلاقه على الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

{ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ } وما بينهما اعتراض وعلى الأول استئناف لبيان الأجر أو خبر ثان. { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } من الأولى للابتداء والثانية للبيان صفة لـ { أَسَاوِرَ }، وتنكيره لتعظيم حسنها من الإِحاطة به وهو جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار. { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا } لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة. { مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } مما رقّ من الديباج وما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } على السرر كما هو هيئة المتنعمين. { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ } الجنة ونعيمها. { وَحَسُنَتْ } الأَرَائك { مُرْتَفَقتً } متكأ.

{ وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً } للكافر والمؤمن. { رَّجُلَيْنِ } حال رجلين مقدرين أو موجودين هما أخوان من بني إسرائيل كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعاً وعقاراً وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى. وقيل الممثل بهما أخوان من بني مخزوم كافر وهو الأسود بن عبد الأشد ومؤمن وهو أبو سلمة عبد الله زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } بستانين. { مّنْ أَعْنَـٰبٍ } من كروم والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة للرجلين. { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } وجعلنا النخل محيطة بهما مؤزراً بها كرومهما، يقال حفه القوم إذا أطافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولاً ثانياً كقولك: غشيته به. { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا } وسطهما. { زَرْعًا } ليكون كل منهما جامعاً للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والترتيب الأنيق.

{ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا } ثمرها، وإفراد الضمير لإِفراد { كِلْتَا } وقرىء «كل الجنتين آتى أكله». { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ } ولم تنقص من أكلها. { شَيْئاً } يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالباً. { وَفَجَّرْنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَراً } ليدوم شربهما فإنه الأصل ويزيد بهاؤهما، وعن يعقوب «وَفَجرنَا» بالتخفيف.

{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله إذا كثره. وقرأ عاصم بفتح الثاء والميم، وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم والباقون بضمهما وكذلك في قوله { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } { فَقَالَ لَصَـٰحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } يراجعه في الكلام من حار إذا رجع. { أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } حَشَماً وأعواناً. وقيل أولاداً ذكوراً لأنهم الذين ينفرون معه.

{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها، وإفراد الجنة لأن المراد ما هو جنته وما متع به من الدنيا تنبيهاً على أن لا جنة له غيرها ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون، أو لاتصال كل واحد من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون في واحدة واحدة. { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } ضار لها بعجبه وكفره { قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ } أن تفنى. { هَـٰذِهِ } الجنة. { أَبَدًا } لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته.

{ وَمَا أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } كائنة. { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبّى } بالبعث كما زعمت. { لأَجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا } من جنته، وقرأ الحجازيان والشامي «منهما» أي من الجنتين. { مُنْقَلَباً } مرجعاً وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية، وإنما أقسم على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه لاستئهاله واستحقاقه إياه لذاته وهو معه أينما تلقاه.

{ قَالَ لَهُ صَـٰحِبُهُ وَهُوَ يُحَـٰوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } لأنه أصل مادتك أو مادة أصلك. { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } فإنها مادتك القريبة. { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } ثم عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال. جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى، ولذلك رتب الإِنكار على خلقه إياه من التراب فإن من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه.