التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
٦٠
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً
٦١
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَٰهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً
٦٢
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً
٦٣
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً
٦٤
فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
٦٥
قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً
٦٦
-الكهف

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ } البليغ المغفرة. { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } الموصوف بالرحمة. { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } استشهاد على ذلك بإمهال قريش مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } وهو يوم بدر أو يوم القيامة. { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } منجاً ولا ملجأ، يقال وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه.

{ وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ } يعني قرى عاد وثمود وأضرابهم، { وَتِلْكَ } مبتدأ خبره. { أَهْلَكْنَـٰهُمْ } أو مفعول مضمر مفسر به، و { ٱلْقُرَىٰ } صفته ولا بد من تقدير مضاف في أحدهما ليكون مرجع الضمائر. { لَمَّا ظَلَمُواْ } كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } لإِهلاكهم وقتاً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وقرأ أبو بكر { لِمَهْلِكِهِم } بفتح الميم واللام أي لهلاكهم، وحفص بكسر اللام حملاً على ما شذ من مصادر يفعل كالمرجع والمحيض.

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ } مقدر باذكر. { لِفَتَـٰهُ } يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه وقيل لعبده. { لا أَبْرَحُ } أي لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر وقوله: { حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ } من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه، ويجوز أن يكون أصله لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب الضمير والفعل وأن يكون { لا أَبْرَحُ } هو بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا يستدعي الخبر، و { مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ } ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وُعِدَ لقاء الخضر فيه. وقيل البحران موسى وخضر عليهما الصلاة والسلام فإن موسى كان بحر علم الظاهر والخضر كان بحر علم الباطن. وقرىء «مِجْمَعَ» بكسر الميم على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع { أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } أو أسير زماناً طويلاً، والمعنى حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب أو حتى أبلغ إلا أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات المجمع، والحقب الدهر وقيل ثمانون سنة وقيل سبعون. روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب الناس بعد هلاك القبط ودخوله مصر خطبة بليغة فأعجب بها فقيل له: هل تعلم أحداً أعلم منك فقال: لا، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبدنا الخضر وهو بمجمع البحرين، وكان الخضر في أيام افريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى. وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى، قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، فقال إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه، قال أعلم منك الخضر قال: أين أطلبه، قال على الساحل عند الصخرة، قال كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك، فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان.

{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي مجمع البحرين و { بَيْنَهُمَا } ظرف أضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل. { نَسِيَا حُوتَهُمَا } نسي موسى عليه الصلاة والسلام أن يطلبه ويتعرف حاله، ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. روي: أن موسى عليه السلام رقد فاضطرب الحوت المشوي ووثب في البحر معجزة لموسى أو الخضر. وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح الماء عليه فعاش ووثب في الماء. وقيل نسيا تفقد أمره وما يكون منه أمارة على الظفر بالمطلوب { فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى ٱلْبَحْرِ سَرَباً } فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً من قوله { { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } [الرعد: 10] وقيل أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه، ونصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ.

{ فَلَمَّا جَاوَزَا } مجمع البحرين. { قَالَ لِفَتَـٰهُ ءاتِنَا غَدَاءنَا } ما نتغذى به. { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما جاوزه وسار الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب. وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم الإِشارة.

{ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا } أرأيت ما دهاني إذ أوينا. { إِلَى ٱلصَّخْرَةِ } يعني الصخرة التي رقد عندها موسى. وقيل هي الصخرة التي دون نهر الزيت. { فَإِنّى نَسِيتُ ٱلْحُوتَ } فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه. { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ } أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل من الضمير، وقرىء «أن أذكركه». وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضرى بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قل اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان. { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى ٱلْبَحْرِ عَجَبًا } سبيلاً عجباً وهو كونه كالسرب أو اتخاذ عجباً، والمفعول الثاني هو الظرف وقيل هو مصدر فعله المضمر أي قال في آخر كلامه، أو موسى في جوابه عجباً تعجباً من تلك الحال. وقيل الفعل لموسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً.

{ قَالَ ذَلِكَ } أي أمر الحوت. { مَا كُنَّا نَبْغِ } نطلب لأنه أمارة المطلوب. { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ ءاثَارِهِمَا } فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه. { قَصَصًا } يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً، أو مقتصين حتى أتيا الصخرة.

{ فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا } الجمهور على أنه الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان. وقيل اليسع. وقيل إلياس. { ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } هي الوحي والنبوة. { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب.

{ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلّمَنِ } على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الكاف. { مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً } علماً ذا رشد وهو إصابة الخير، وقرأ البصريان بفتحتين وهما لغتان كالبخل والبخل، وهو مفعول { تُعَلّمني } ومفعول { عَلِمَتِ } العائد المحذوف وكلاهما منقولان من علم الذي له مفعول واحد، ويجوز أن يكون رشداً علة لأتبعك أو مصدراً بإضمار فعله، ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطاً في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقاً، وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه.