{ إِذْ رَأَى نَاراً } ظرف للـ { حَدِيثُ } لأنه حدث أو مفعول لأذكر. قيل إنه استأذن شعيباً عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذا رأى من جانب الطور ناراً. { فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُواْ } أقيموا مكانكم. وقرأ حمزة «لأهله امكثوا ها هنا»، وفي «القصص» بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها. { إِنّى آنَسْتُ نَاراً } أبصرتها إبصاراً لا شبهة فيه، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به. { لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ } بشعلة من النار وقيل جمرة. { أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } هادياً يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم. ولما كان حصولهما مترتباً بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس، فإنه كان محققاً ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه، ومعنى الاستعلاء في { عَلَى ٱلنَّارِ } أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في: مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه.
{ فَلَمَّا أَتَـٰهَا } أي النار وجد ناراً بيضاء تتقد في شجرة خضراء. { نُودِىَ يٰمُوسَىٰ }.
{ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } فتحه ابن كثير وأبو عمرو أي بأني وكسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه، وتكرير الضمير للتوكيد والتحقيق. قيل إنه لما نودي قال: من المتكلم قال: إني أنا الله، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات وبجميع الأعضاء. وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام تلقى من ربه كلامه تلقياً روحانياً، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة. { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } أمره بذلك لأن الحفوة تواضع وأدب ولذلك طاف السلف حافين. وقيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال. { إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ } تعليل للأمر باحترام البقعة والمقدس يحتمل المعنيين. { طُوًى } عطف بيان للوادي ونونه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان. وقيل هو كثني من الطي مصدر لـ { نُودِىَ } أو { ٱلْمُقَدَّسِ } أي: نودي نداءين أو قدس مرتين.
{ وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } اصطفيتك للنبوة وقرأ حمزة «وإنا اخترناك». { فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } للذي يوحى إليك، أو للوحي واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين.
{ إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى } بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } خصها بالذكر وأفردها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها، وهو تذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وقيل { لِذِكْرِى } لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالثناء، أو { لِذِكْرِى } خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري. وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال
"من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري" { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } كائنة لا محالة. { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أريد إخفاء وقتها، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولولا ما في الأخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه، ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } متعلق بـ { ءَاتِيَةٌ } أو بـ { أُخْفِيهَا } على المعنى الأخير.
{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } عن تصديق الساعة، أو عن الصلاة. { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة والسلام عنها، والمراد نهيه أن يصد عنها كقولهم: لا أرينك ها هنا، تنبيهاً على أَن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها، وأنه ينبغي أن يكون راسخاً في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها. { فَتَرْدَىٰ } فتهلك بالانصداد بصده.
{ وَمَا تِلْكَ } استفهام يتضمن استيقاظاً لما يريه فيها من العجائب. { بِيَمِينِكَ } حال من معنى الإِشارة، وقيل صلة { تِلْكَ }. { يَا مُوسَىٰ } تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه.
{ قَالَ هِىَ عَصَايَ } وقرىء «عصي» على لغة هذيل. { أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا } أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِى } وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي، وقرىء { أهش } وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته، وقرىء بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجراً لها. { وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَىٰ } حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته، وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به، وإذا قصر الرشاء وصله بها، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، وتصيران دلواً عند الاستقاء، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو، وينبع الماء بركزها، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلاً ومجملاً على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه.
{ قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ فَأَلْقَـٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جاناً تارة نظراً إلى المبدأ وثعباناً مرة باعتبار المنتهى، وحية أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين. وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال
{ { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [النمل: 10].