التفاسير

< >
عرض

لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٠٠
فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ
١٠١
فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٠٢
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
١٠٣
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
١٠٤
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
١٠٥
قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ
١٠٦
رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ
١٠٧
قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ
١٠٨
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ
١٠٩
فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ
١١٠
-المؤمنون

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ لَعَلّي أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } في الإِيمان الذي تركته أي لعلي آتي الإِيمان وأعمل فيه، وقيل في المال أو في الدنيا. وعنه عليه الصلاة والسلام "قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا، فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوماً إلى الله تعالى، وأما الكافر فيقول رب ارجعون" { كَلاَّ } ردع من طلب الرجعة واستبعاد لها. { إِنَّهَا كَلِمَةٌ } معنى قوله { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } الخ، والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض. { هُوَ قَائِلُهَا } لا محالة لتسلط الحسرة عليه. { وَمِن وَرَائِهِمْ } أمامهم والضمير للجماعة. { بَرْزَخٌ } حائل بينهم وبين الرجعة. { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } يوم القيامة، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

{ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } لقيام الساعة والقراءة بفتح الواو وبه وبكسر الصاد يؤيد أن { ٱلصُّورِ } أيضاً جمع الصورة. { فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ } تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو يفتخرون بها. { يَوْمَئِذٍ } كما يفعلون اليوم. { وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ } ولا يسأل بعضهم بعضاً لاشتغاله بنفسه، وهو لا يناقض قوله { { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [الصافات: 27] لأنه عند النفخة وذلك بعد المحاسبة، أو دخول أهل الجنة الجنة والنار النار.

{ فَمَن ثَقُلَتْ مَوٰزِينُهُ } موزونات عقائده وأعماله، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله تعالى وقدر. { فَأُوْلَٰـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالنجاة والدرجات.

{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوٰزِينُهُ } ومن لم يكن له ما يكون له وزن، وهم الكفار لقوله تعالى: { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً }. { فَأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها. { فِي جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ } بدل من الصلة أو خبر ثان «لأولئك».

{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } تحرقها واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً. { وَهُمْ فِيهَا كَـٰلِحُونَ } من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان، وقرىء «كلحون».

{ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـٰتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } على إضمار القول أي يقال لهم { أَلَمْ تَكُنْ }. { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ } تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله.

{ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } ملكتنا بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، وقرأ حمزة والكسائي «شقاوتنا» بالفتح كالسعادة وقرىء بالكسر كالكتابة. { وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } عن الحق.

{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } من النار. { فَإِنْ عُدْنَا } إلى التكذيب. { فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ } لأنفسنا.

{ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا } اسكتوا سكوت هوان في النار فإنها ليست مقام سؤال من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ. { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } في رفع العذاب أو لا تكلمون رأساً. قيل إن أهل النار يقولون ألف سنة: { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [السجده: 12] فيجابون { { حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنْي } [السجده: 13] فيقولون ألفاً { رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ } [غافر: 11] فيجابون { { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ } [غافر: 12] فيقولون ألفاً { يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف: 77] فيجابون { { إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ } [الزخرف: 77] فيقولون ألفاً { رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } [إبراهيم: 44] فيجابون { { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ } [إبراهيم: 44] فيقولون ألفاً { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً } [فاطر: 37] فيجابون { { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ } [فاطر: 37] فيقولون ألفاً { رَبّ ٱرْجِعُون } [المؤمنون: 99] فيجابون { { اخسَئُواْ فِيهَا } [المؤمنون: 108] ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء.

{ إِنَّهُ } إن الشأن وقرىء بالفتح أي لأنه. { كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي } يعني المؤمنين، وقيل الصحابة وقيل أهل الصفة. { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ }.

{ فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } هزواً وقرأ نافع وحمزة والكسائي هنا وفي «ص» بالضم، وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة، وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية. { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم فلم تخافوني في أوليائي. { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } استهزاء بهم.