{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } لا يأملون. { لِقَاءَنَا } بالخير لكفرهم بالبعث، أولا يخافون { لِقَاءنَا } بالشر على لغة تهامة، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول. { لَوْلاَ } هلا. { أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَٰـئِكَةُ } فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل فيكونوا رسلاً إلينا. { أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } فيأمرنا بتصديقه واتباعه. { لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ } أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك. { وَعَتَوْا } وتجاوزوا الحد في الظلم. { عُتُوّاً كَبِيراً } بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله:
وَجَارَةُ جَسَّاسٍ أَبأنا بِنَابِهَا كُلَيْباً عَلَتْ نَاب كُلَيْب بوَاؤهَا
{ يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلَٰـئِكَةَ } ملائكة الموت أو العذاب، و { يَوْمَ } نصب باذكر أو بما دل عليه. { لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ } فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها، و { يَوْمَئِذٍ } تكرير أو خبر و { لّلْمُجْرِمِينَ } تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام، أو لـ { بُشْرىً } إن قدرت منونة غير مبنية مع { لا } فإنها لا تعمل، وللـ { مُّجْرِمِينَ } إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان ولا يلزم عن نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر، وإما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلاً على جرمهم وإشعاراً بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابلها. { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } عطف على المدلول أي ويقول الكفرة حينئذ، هذه الكلمة استعاذة وطلباً من الله تعالى أن يمنع لقاءهم وهي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه، أو تقولها الملائكة بمعنى حراماً عليكم الجنة أو البشرى. وقرىء { حجْراً } بالضم وأصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك وعمرك ولذلك لا يتصرف فيه ولا يظهر ناصبه، ووصفه بمحجوراً للتأكيد كقولهم: موت مائت. { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً } أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثراً، والـ { هَبَاء } غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار، و { مَّنثُوراً } صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى:
{ { كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } [البقرة: 65] { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } مكاناً يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس والتحادث. { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } مكاناً يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزاً له من مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالباً إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حسن الصور وغيره من التحاسين، ويحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة، والتفضيل إما لإِرادة الزيادة مطلقاً أو بالإِضافة إلى ما للمترفين في الدنيا. روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاءُ } أصله تتشقق فحذفت التاء، وأدغمها ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب. { بِٱلْغَمَـٰمِ } بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام المذكور في قوله
{ { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ } [البقرة: 210] { وَنُزِّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ تَنزِيلاً } في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد، وقرأ ابن كثير «وننزل» وقرىء و «نزلت» «وأنزل» { وَنُزِّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } بحذف نون الكلمة. { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه فهو الخبر و { لِلرَّحْمَـٰنِ } صلته، أو تبيين و { يَوْمَئِذٍ } مفعول { ٱلْمَلِكُ } لا { ٱلْحَقّ } لأنه متأخر أو صفته والخبر { يَوْمَئِذٍ } أو { لِلرَّحْمَـٰنِ }. { وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ عَسِيراً } شديداً.
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } من فرط الحسرة، وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما، والمراد بـ { ٱلظَّـٰلِمِ } الجنس. وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال: لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام:
"لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر يوم بدر" فأمر علياً فقتله وطعن أبَياً بِأُحُدْ في المبارزة فرجع إلى مكة ومات. { يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً } طريقاً إلى النجاة أو طريقاً واحداً وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة. { يَا وَيْلَتَى } وقرىء بالياء على الأصل. { لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } يعني من أضله وفلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس.
{ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ } عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة. { بَعْدَ إِذْ جَاءنِي } وتمكنت منه. { وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ } يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول، أو كل من تشيطن من جن وإنس. { لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً } يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه، فعول من الخذلان.
{ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ } محمد يومئذ أو في الدنيا بثاً إلى الله تعالى. { قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي } قريشاً. { ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً } بأن تركوه وصدوا عنه، وعنه عليه الصلاة والسلام
"من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه" أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين، فيكون أصله { مَهْجُوراً } فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول، وفيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب. { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ } كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا، وفيه دليل على أنه خالق الشر، والعدو يحتمل الواحد والجمع. { وَكَفَىٰ بِرَبّكَ هَادِياً } إلى طريق قهرهم. { وَنَصِيراً } لك عليهم.
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ } أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله: { جُمْلَةً وٰحِدَةً } دفعة واحدة كالكتب الثلاثة، وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإِعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } أي كذلك أنزلناه مفرقاً فتقوى بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه، لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة والسلام أمياً وكانوا يكتبون، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه، ولعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئاً فشيئاً، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى، ولأنه إذا نزل منجماً وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه، ولأنه إذا نزل به جبريل حالاً بعد حال يثبت به فؤاده ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يعين على البلاغة، وكذلك صفة مصدر محذوف والإِشارة إلى إنزاله مفرقاً فإنه مدلول عليه بقوله { لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً } ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالاً والإِشارة إلى الكتب السابقة، واللام على الوجهين متعلق بمحذوف. { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } وقرأناه عليك شيئاً بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها.
{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. { إِلاَّ جِئْنَـٰكَ بِٱلْحَقِّ } الدامغ له في جوابه. { وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } وبما هو أحسن بياناً أو معنى من سؤالهم، أو { لا يَأْتُونَكَ } بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفاً لما بعثت له.
{ ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ } أي مقلوبين أو مسحوبين عليها، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها. وعنه عليه الصلاة والسلام
"يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف، صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه" وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره. { أُوْلَٰـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } والمفضل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله تعالى: { { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة: 60] كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانًا وأضل سبيلاً، وقيل إنه متصل بقوله { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.