التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً
١
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
٢
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً
٣
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً
٤
وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٥
قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٦
وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
٧
أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً
٨
ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
٩
تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً
١٠
-الفرقان

انوار التنزيل واسرار التأويل

مكية وآيها سبع وسبعون آية

{ بسم الله الرحمن الرحيم }

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ } تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وترتيبه عن إنزاله { ٱلْفُرْقَانَ } لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه. وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و { ٱلْفُرْقَانَ } مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولاً بعضه عن بعض في الإِنزال، وقرىء «على عباده» وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله تعالى: { { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ } [النور: 34] أو الأنبياء على أن { ٱلْفُرْقَانَ } اسم جنس للكتب السماوية. { لِيَكُونَ } العبد أو الفرقان. { لّلْعَـٰلَمِينَ } للجن والإِنس. { نَذِيراً } منذراً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإِنكار، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة.

{ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب. { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } كزعم النصارى. { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقاً ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أحدثه إحداثاً مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإِنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة. { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإِنسان للإِدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك، أو { فَقَدَّرَهُ } للبقاء إلى أجل مسمى. وقد يطلق الخلق لمجرد الإِيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتاً.

{ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما. { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم. { وَلاَ يَمْلِكُونَ } ولا يستطيعون. { لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً } دفع ضر. { وَلاَ نَفْعاً } ولا جلب نفع. { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً } ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولاً وبعثه ثانياً ومن كان كذلك فبمعزل عن الأُلوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها، وفيه تنبيه على أن الإِله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء.

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ } كذب مصروف عن وجهه. { ٱفْتَرَاهُ } اختلقه. { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ } أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله { إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } [النحل: 103] { فَقَدْ جَاءُو ظُلْماً } بجعل الكلام المعجز { إِفك } مختلقاً متلقفاً من اليهود. { وَزُوراً } بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته.

{ وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } ما سطره المتقدمون. { ٱكْتَتَبَهَا } كتبها لنفسه أو استكتبها، وقرىء على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله: اكتتبها كاتب له، فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه. { فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب.

{ قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } لأنه أعجزكم عن آخِركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه { أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }. { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صباً.

{ وَقَالُواْ مَّالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ } ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم. { يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ } كما نأكل. { وَيَمْشِي فِي ٱلاْسْوَاقِ } لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110] { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } لنعلم صدقه بتصديق الملك.

{ أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ } فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش. { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار. { وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ } وضع { ٱلظَّـٰلِمُونَ } موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوه. { إِن تَتَّبِعُونَ } ما تتبعون. { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا } سحر فغلب على عقله، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشراً لا ملكاً.

{ ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة. { فُضَلُّواْ } عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبط عشواء. { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى.

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ } في الدنيا. { خَيْراً مّن ذٰلِكَ } مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى. { جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } بدل من { خَيْرًا }. { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } عطف على محل الجزاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله:

وَإِنَّ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُ

ويجوز أن يكون استئنافاً بوعد ما يكون له في الآخرة، وقرىء بالنصب على أنه جواب بالواو.