{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ } متبعوه من عصاة الثقلين، أو شياطينه. { أَجْمَعُونَ } تأكيد للـ { جُنُودُ } إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير و { مَا } عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله:
{ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله:
{ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي في استحقاق للعبادة، ويجوز أن تكون الضمائر للعبد كما في { قَالُواْ } والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها.
{ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِينَ } كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.
{ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } إِذِ الأَخِلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إِلاَّ المتقين، أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء، أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق، وجمع الشافع وحدةالـ { صَدِيقٍ } لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الـصديق، أو لأن الـ { صَدِيقٍ } الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، أو لإِطلاق الـ { صَدِيقٍ } على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل.
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } تمن للرجعة أقيم فيه «لو» مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير، أو شرط حذف جوابه. { فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } جواب التمني أو عطف على { كَرَّةٌ } أي: لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين.
{ إِنَّ فِي ذَلك } أي فيما ذكر من قصة إبراهيم. { لآيَةً } لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإِشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً وإيقاظاً لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول. { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ } أكثر قومه. { مُّؤْمِنِينَ } به.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } القادر على تعجيل الانتقام. { ٱلرَّحِيمِ } بالإِمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم.
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } الـ { قَوْمٌ } مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين.
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ } لأنه كان منهم. { أَلاَ تَتَّقُونَ } الله فتتركوا عبادة غيره.
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } مشهور بالأمانة فيكم.
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه.
{ وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ } على ما أنا عليه من الدعاء والنصح. { مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء في { أَجْرِيَ } في الكلمات الخمس.
{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } الأقلون جاهاً ومالاً جمع الأرذل على الصحة، وقرأ يعقوب «وأتباعك» وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلاً على بطلانه، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك:
{ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إنهم عملوه إخلاصاً أو طمعاً في طعمة وما عليَّ إلا اعتبار الظاهر.
{ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّي } ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها. { لَوْ تَشْعُرُونَ } لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون.
{ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } جواب لما أوهم قولهم من استدعاه طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه وقوله:
{ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإِنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي في طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، أو ما عليَّ إلا إنذاركم إنذاراً بيناً بالبرهان الواضح فلا عليَّ أن أطردهم لاسترضائكم.
{ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰ نُوحٌ } عما تقول. { لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُرْجُومِينَ } من المشتومين أو المضروبين بالحجارة.
{ قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } إظهاراً لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.
{ فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة. { وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } من قصدهم أو شؤم عملهم.
{ فَأَنجَيْنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } المملوء.
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ } بعد إنجائه. { ٱلْبَـٰقِينَ } من قومه.
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } شاعت وتواترت. { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ }.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }.
{ كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ } أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم.
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ }.
{ وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية.
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ } بكل مكان مرتفع، ومنه ريع الأرض لارتفاعها. { ءايَةً } علماً للمارة. { تَعْبَثُونَ } ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام، أو بنياناً يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم، أو قصوراً يفتخرون بها.
{ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } مآخذ الماء وقيل قصوراً مشيدة وحصوناً. { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } فتحكمون بنيانها.
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ } بسيف أو سوط. { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة.
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } بترك هذه الأشياء. { وَأَطِيعُونِ } فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.
{ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } كرره مرتباً على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلاً وتنبيهاً على الوعد عليه بدوام الإِمداد والوعيد على تركه بالإِنقطاع، ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالاً بالإِنكار في { أَلاَ تَتَّقُونَ } مبالغة في الإِيقاظ والحث على التقوى فقال:
{ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَـٰمٍ وَبَنِينَ وَجَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } ثم أوعدهم فقال:
{ إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإِنعام قدر على الإِنتقام.
{ قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ ٱلْوٰعِظِينَ } فإنا لا نرعوي عما نحن عليه، وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه.
{ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة »خُلُقُ ٱلاْوَّلِينَ« بضمتين أي ما هذا الذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها.
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } على ما نحن عليه.
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ } بسبب التكذيب بريح صرصر. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ }.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَـٰلِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ }.
{ وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَا هُنَا ءَامِنِينَ } إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله:
{ فِي جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ }.
{ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } لطيف لين للطف الثمر، أو لأن النخل أنثى وطلع وإناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، أو متدل منكسر من كثرة الحمل، وإفراد الـ { نَخْلٍ } لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار.
{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَـٰرِهِينَ } بطرين أو حاذقين من الفراهة وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «فرهين» وهو أبلغ من «فارهين».
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ } استعير الطاعة التي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر، أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازاً.
{ ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ } وصف موضح لإِسرافهم ولذلك عطف: { وَلاَ يُصْلِحُونَ } على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم.
{ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } الذين سحروا كثيراً حتى غلب على عقلهم، أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون:
{ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } تأكيداً له. { فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } في دعواك.