التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٩
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١١
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
١٢
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٤
وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
١٥
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
١٦
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ
١٧
فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ
١٨
فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٩
وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ
٢٠
-القصص

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ } أي لفرعون حين أخرجته من التابوت. { قُرَّتُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ } هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإِنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت، وفي الحديث أنه قال: لك لا لي. ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. { لاَ تَقْتُلُوهُ } خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. { عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا } فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبناً وبرء البرصاء بريقه. { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أو نتبناه فإنه أهل له. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنه لغيرنا وقد تبنيناه.

{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } صفراً من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } [إبراهيم: 43] أي خلاء لا عقول فيها، ويؤيده أنه قرىء «فرغاً» من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه. { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ } أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه. { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } بالصبر والثبات. { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } من المصدقين بوعد الله، أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه. وقرىء موسى إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط، وجواب { لَوْلاَ } محذوف دل عليه ما قبله.

{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ } مريم. { قُصّيهِ } اتبعي أثره وتتبعي خبره. { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } عن بعد وقرىء «عن جانب» «وعن جنب» وهو بمعناه. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها تقص أو أنها أخته.

{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ } ومنعناه أن يرتضع من المرضعات، جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع، أو موضعه يعني الثدي. { مِن قَبْلُ } من قبل قصها أثره. { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } لأجلكم. { وَهُمْ لَهُ نَـٰصِحُونَ } لا يقصرون في إرضاعه وتربيته، روي أن هامان لما سمعه قال: إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها: من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها، فرجعت به إلى بيتها من يومها، وهو قوله تعالى:

{ فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } بولدها. { وَلاَ تَحْزَنْ } بفراقه. { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } علم مشاهدة. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن وعده حق فيرتابون فيه، أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع، وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون.

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ. وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة. { وَٱسْتَوَىٰ } قده أو عقله. { آتَيْنَاهُ حُكْمًا } أي نبوة. { وَعِلْماً } بالدين، أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه، وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة. { وَكَذٰلِكَ } ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه. { نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } على إحسانهم.

{ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ } ودخل مصر آتياً من قصر فرعون وقيل منف أو حائين، أو عين شمس من نواحيها. { عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين. { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ } أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط، والإِشارة على الحكاية. { فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِى } هو { مِنْ عَدُوّهِ } فسأله أن يغيثه بالإِعانة ولذلك عدى بـ { عَلَىٰ } وقرىء «استعانه». { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ } فضرب القبطي بجمع كفه، وقرىء فلكزه أي فضرب به صدره. { فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ } [الحجر: 66] { قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأموناً فيهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلماً واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم. { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة.

{ قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } بقتله. { فَٱغْفِرْ لِى } ذنبي. { فَغَفَرَ لَهُ } لاستغفاره. { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ } لذنوب عباده. { ٱلرَّحِيمِ } بهم.

{ قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } أو استعطاف أي بحق إنعامك على أعصمني فلن أكون معيناً لمن أدت معاونته إلى جرم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى، وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك.

{ فَأَصْبَحَ فِى ٱلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } يترقب الاستقادة. { فَإِذَا ٱلَّذِى ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } يستغيثه مشتق من الصراخ. { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر.

{ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } لموسى والإِسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل. { قَالَ يَـا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ } قاله الإِسرائيلي لأنه لما سماه غوياً ظن أنه يبطش عليه، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي. { إِن تُرِيدُ } ما تريد. { إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى ٱلأَرْضِ } تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب. { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى:

{ وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ } يسرع صفة رجل، أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. { قَالَ يَـا مُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } يتشاورون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كلاً من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. { فَٱخْرُجْ إِنّى لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ } اللام للبيان وليس صلة لـ { ٱلنَّـٰصِحِينَ } لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول.