التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي ٱلْجَاهِلِينَ
٥٥
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٥٦
وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٧
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ
٥٨
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
٥٩
وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٦٠
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ
٦١
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٦٢
قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
٦٣
وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ
٦٤
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ
٦٥
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
٦٦
فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ
٦٧
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٨
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
-القصص

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } تكرماً. { وَقَالُواْ } للاغين. { لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ } متاركة لهم وتوديعاً، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. { لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ } لا نطلب صحبتهم ولا نريدها.

{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } لا تقدر على أن تدخلهم في الإِسلام. { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ } فيدخله في الإِسلام. { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } بالمستعدين لذلك. والجمهور على "أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت"

{ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } نخرج منها. نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله: { أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً } أو لم نجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه. { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ } يحمل إليه ويجمع فيه، وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء. { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } من كل أوب. { رّزْقاً مّن لَّدُنَّا } فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموه، وقيل إنه متعلق بقوله { مّن لَّدُنَّـا } أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره، وانتصاب { رِزْقاً } على المصدر من معنى { يُجْبَىٰ }، أو حال من الـ { ثَمَرٰتِ } لتخصصها بالإِضافة، ثم بين أن الأمر بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه بقوله:

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم. { فَتِلْكَ مَسَـٰكِنُهُمْ } خاوية. { لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوماً أو بعض يوم، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم. { وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوٰرِثِينَ } منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم، وانتصاب { مَعِيشَتَهَا } بنزع الخافض أو بجعلها ظرفاً بنفسها كقولك: زيد ظني مقيم، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولاً على تضمين بطرت معنى كفرت.

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ } وما كانت عادته. { مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا } في أصلها التي هي أعمالها، لأن أهلها تكون أفطن وأنبل. { رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِنَا } لإِلزام الحجة وقطع المعذرة. { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } بتكذيب الرسل والعتو في الكفر.

{ وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء } من أسباب الدنيا. { فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } تتمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية. { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } وهو ثوابه. { خَيْرٌ } في نفسه من ذلك لأنه لذة خاصة وبهجة كاملة. { وَأَبْقَىٰ } لأنه أبدى. { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة.

{ أَفَمَن وَعَدْنَـٰهُ وَعْداً حَسَناً } وعداً بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود. { فَهُوَ لاَقِيهِ } مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده، ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية. { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَـٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع. { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } للحساب أو العذاب، و { ثُمَّ } للتراخي في الزمان أو الرتبة، وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي { ثُمَّ هُوَ } بسكون الهاء تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء.

{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر. { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما.

{ قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } بثبوت مقتضاه وحصول مؤداه وهو قوله تعالى: { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119] وغيره من آيات الوعيد. { رَبَّنَا هَـؤُلاءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا } أي { هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ } أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول. { أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي { أَغْوَيْنَـٰهُمْ } فغووا غياً مثل ما غوينا، وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلاً، ويجوز أن يكون { ٱلَّذِينَ } صفة و { أَغْوَيْنَـٰهُمْ } الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة وهو إن كان فضلة لكنه صار من اللوازم. { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم ومما اختاره من الكفر هوى منهم، وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا. { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } أي ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل { مَا } مصدرية متصلة بـ { تَبَرَّأْنَا } أي تبرأنا من عبادتهم إيانا.

{ وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ } من فرط الحيرة. { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } لعجزهم عن الإِجابة والنصرة. { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } لازماً بهم. { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } لوجه من الحيل يدفعون به العذاب، أو إلى الحق لما رأوا العذاب { لَوْ } للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين.

{ وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولاً عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء.

{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـاء يَوْمَئِذٍ } فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم، وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها، فإذا كانت الرسل يتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء. { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز.

{ فَأَمَّا مَن تَابَ } من الشرك. { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً }. وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح. { فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.

{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } لا موجب عليه ولا مانع له. { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } أي التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهرة نفي الاختيار عنهم رأساً والأمر كذلك عند التحقيق، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم { { لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] وقيل { مَا } موصولة مفعول لـ { يختار } والراجع إليه محذوف والمعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح. { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ } تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار. { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه.

{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } كعداوة الرسول وحقده. { وَمَا يُعْلِنُونَ } كالطعن فيه.