مكية إلا قوله: قل يا عبادي الآية وآيها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ } خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره. { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } وهو على الأول صلة لـ { تَنزِيلَ }، أو خبر ثان أو حال عمل فيها الإِشارة أو الـ { تَنزِيلَ }، والظاهر أن { ٱلْكِتَـٰبِ } على الأول السورة وعلى الثاني القرآن، وقرىء «تَنزِيلَ» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ } ملتبساً بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله. { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدّينِ } ممحصاً له الدين من الشرك والرياء، وقرىء برفع ٱ«;لدّين» عن الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكداً وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال:
{ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ } أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم، وهو مبتدأ خبره على الأول. { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } بإضمار القول. { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وهو متعين على الثاني، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالاً أو بدلاً من الصلة و { زُلْفَىٰ } مصدر أو حال، وقرىء «قالوا ما نعبدهم» و «ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و { نَعْبُدُهُمْ } بضم النون اتباعاً. { فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى } لا يوفق للاهتداء إلى الحق. { مَنْ هُوَ كَـٰذِبٌ كَـفَّارٌ } فإنهما فاقدا البصيرة.
{ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } كما زعموا. { لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } إذ لا موجود سواه إلا هو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله: { سُبْحَـٰنَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ } فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للواحدة الذاتية، وهي تنافي المماثلة فضلاً عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة، والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد، ثم استدل على ذلك بقوله:
{ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ } يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة، أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة. { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } هو منتهى دوره أو منقطع حركته. { إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ } القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء. { ٱلْغَفَّارُ } حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.
{ خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوء به من خلق الإِنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات: خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما. و { ثُمَّ } للعطف على محذوف هو صفة { نَفْسٌ } مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها، أو على { خَلَقَكُمْ } لتفاوت ما بين الآيتين، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية. وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء. { وَأَنزَلَ لَكُمْ } وقضى أو قسم لكم، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار. { مّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } ذكر وأنثى من الإِبل والبقر والضأن والمعز. { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ } بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون. { خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف. { فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ } ظلمة البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن. { ذٰلِكُمْ } الذي هذه أفعاله. { ٱللَّهُ رَبُّكُمُ } هو المستحق لعبادتكم والمالك. { لَهُ ٱلْمُلْكُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } إذ لا يشاركه في الخلق غيره. { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.
{ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } عن إِيمانكم. { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } لاستضرارهم به رحمة عليهم. { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } لأنه سبب فلا حكم، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها. { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بالمحاسبة والمجازاة. { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه. { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } أعطاه من الخول وهو التعهد، أو الخول وهو الافتخار. { نِعْمَةً مّنْهُ } من الله. { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ } أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ربه الذي كان يتضرع إليه و { مَا }؛ مثل الذي في قوله:
{ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [الليل: 3] { مِن قَبْلُ } من قبل النعمة. { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، والضلال والإِضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين. { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله: { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } على سبيل الاستئناف للمبالغة.