التفاسير

< >
عرض

وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ
٤١
إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤٢
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
٤٣
وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ
٤٤
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ
٤٥
وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
٤٦
ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ
٤٧
فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ
٤٨
لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ
٤٩
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٥٠
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
٥١
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٢
صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ
٥٣
-الشورى

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } بعد ما ظلم، وقد قرىء به. { فَأُوْلَـئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ } بالمعاتبة والمعاقبة.

{ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ } يبتدؤنهم بالإِضرار ويطلبون ما لا يستحقونه تجبراً عليهم. { وَيَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } على ظلمهم وبغيهم.

{ وَلَمَن صَبَرَ } على الأذى. { وَغَفَرَ } ولم ينتصر. { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به.

{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ } من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه. { وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقاً. { يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } هل إلى رجعة إلى الدنيا.

{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } على النار، ويدل عليه { ٱلْعَذَابَ }. { خَـٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلّ } متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل. { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ } أيبتدىء نظرهم إلى النار مع تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف. { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } بالتعريض للعذاب المخلد. { يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } ظرف لـ { خَسِرُواْ } والقول في الدنيا، أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال. { أَلاَ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم.

{ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } إلى الهدى أو النجاة.

{ ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ } لا يرده الله بعدما حكم به و { مِنْ } صلة لـ { مَرَدَّ }. وقيل صلة { يَأْتِىَ } أي من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده. { مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ } مفر. { يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ } إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.

{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } رقيباً أو محاسباً. { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ } وقد بلغت. { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا ٱلإنسَـٰنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } أراد بالإِنسان الجنس لقوله: { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإنسَـٰنَ كَفُورٌ } بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها، وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه. وتصدير الشرطية الأولى بـ { إِذَا } والثانية بـ { إَنَّ } لأن أذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.

{ للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء. { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } من غير لزوم ومجال اعتراض. { يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَـٰثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ ٱلذُّكُورَ }.

{ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـٰثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً } بدل من { يَخْلُقُ } بدل البعض، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعاً ويعقم آخرين، ولعل تقديم الإِناث لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإِنسان والإِناث كذلك، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء، أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثلث لأنه قسيم المشترك بين القسمين، ولم يحتج إليه الرابع لا فصاحة بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة. { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } وما صح له. { أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } كلاماً خفياً يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة، وهو ما يعم المشافه به كما روي في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور، ولكن عطف قوله: { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها. وقيل المراد به الإِلهام والإِلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله: { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } أو يرسل إليه نبياً فيبلغ وحيه كما أمره، وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل، ووحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن { مِن وَرَاء حِجَابٍ } صفة كلام محذوف والإِرسال نوع من الكلام، ويجوز أن يكون وحياً ويرسل مصدرين و { مِن وَرَاء حِجَابٍ } ظرفاً وقعت أحوالاً، وقرأ نافع { أَوْ يُرْسِلَ } برفع اللام. { إِنَّهُ عَلِىٌّ } عن صفات المخلوقين. { حَكِيمٌ } يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط، وتارة بغير وسط إما عياناً وإما من وراء حجاب.

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } يعني ما أوحي إليه، وسماه روحاً لأن القلوب تحيا به، وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي. { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ } أي قبل الوحي، وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع. وقيل المراد هو الإِيمان بما لا طريق إليه إلا السمع. { وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ } أي الروح أو الكتاب أو الإِيمان. { نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } بالتوفيق للقبول والنظر فيه. { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هو الإِسلام، وقرىء « لَتَهْدِى» أي ليهديك الله.

{ صِرٰطِ ٱللَّهِ } بدل من الأول. { ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } خلقاً وملكاً. { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } بارتفاع الوسائط والتعلقات، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين. عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له" .