التفاسير

< >
عرض

وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٩
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع. { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى. { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ } تعدت عليها. { فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىء إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين. { فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ } بفصل ما بينهما على ما حكم الله، وتقييد الإِصلاح بالعدل ها هنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة. { وَأَقْسِطُواْ } واعدلوا في كل الأمور. { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } يحمد فعلهم بحسن الجزاء. والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة.

{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإِيمان الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإِصلاح ولذلك كرره مرتباً عليه بالفاء فقال: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج. وقرىء «بين إخوتكم» و «إخوانكم». { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في مخالفة حكمه والإِهمال فيه. { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } على تقواكم.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مّن نّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ } أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: { { ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء } [النساء: 34] وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و { عَسَى } باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإِغناء الاسم عنه. وقرىء «عسوا أن يكونا» و «عسين أن يكن» فهي على هذا ذات خبر. { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } أي ولا يغتب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. واللمز الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضم. { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَـٰبِ } ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفاً. { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ } أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإِيمان واشتهارهم به، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق وإلى المؤمنين خصوصاً إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها "هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام" أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح. { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } عما نهى عنه. { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب.

{ ٱ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ } كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يحالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية. { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ } مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، وقرىء بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس. وفي الحديث "لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته" { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته. وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال: "أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته" { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان وجعل المأكول أخاً وميتاً وتعقيب ذلك بقوله: { فَكَرِهْتُمُوهُ } تقريراً وتحقيقاً لذلك. والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، وانتصاب { مَيْتًا } على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع. { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، والمبالغة في الـ { تَوَّابٌ } لأنه بليغ في قبول التوبة إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم، روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً، وكان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: "ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما" ، فقالا: ما تناولنا لحماً، فقال: "إنكما قد اغتبتما" فنزلت.