التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
١٠٢
مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
١٠٣
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
١٠٤
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٠٨
يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١٠٩
-المائدة

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ قُل لاَّ يَسْتَوِى ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيّبُ } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، رغب به في مصالح العمل وحلال المال. { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر، وآثروا الطيب وإن قل. { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } راجين أن تبلغوا الفلاح. روي: أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه وإن كانوا مشركين.

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ } إن الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمعنى: لا تسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال وهو أنه مما يغمهم والعاقل لا يفعل ما يغمه، وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء. وقيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيء كهين، أو شيء كصديق فخفف. وقيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت وأبيات ويرده منع صرفه. { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها. إذ روي أنه لما نزلت { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97] قال سراقة بن مالك: أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال: "لا ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم" فنزلت أو استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها. { وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، ويعفو عن كثير وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال: لا أسأل عن شيء إلا أجبت، فقال رجل: أين أبي فقال في النار، وقال آخر من أبي فقال: حذافة وكان يدعى لغيره" فنزلت.

{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ } في الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار. { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق بسألها وليس صفة لقوم، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها. { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَـٰفِرِينَ } أي بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحوداً.

{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، وكان الرجل منهم يقول: إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا: قد حمي ظهره، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة. { وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى. { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم، أو الآمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءنَا } بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه. { أُوَلَواْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإِنكار الفعل على هذه الحال، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد.

{ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي إحفظوها والزموا إصلاحها، والجار مع المجرور جعل اسماً لإِلزموا ولذلك نصب أنفسكم. وقرىء بالرفع على الابتداء. { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام "من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت. و { لاَ يَضُرُّكُمْ } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرىء «لا يضيركم» والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لاَ يَضُرُّكُمْ } بالفتح، و { لاَ يَضُرُّكُمْ } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره. { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره.

{ يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } أي فيما أمرتم شهادة بينكم، والمراد بالشهادة الإِشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرىء { شَهَادَةً } بالنصب والتنوين على ليقم. { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة. { حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر. { ٱثْنَانِ } فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف. { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان. { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } عطف على اثنان، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخاً فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً. { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلأَرْضِ } أي سافرتم فيها. { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } أي قاربتم الأجل. { تَحْبِسُونَهُمَا } تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما. { مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ } صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل أي صلاة كانت. { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } إن ارتاب الوارث منكم. { لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } مقسم عليه، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذباً لطمع. { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } ولو كان المقسم له قريباً منا، وجوابه أيضاً محذوف أي لا نشتري. { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ } أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن. { إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ ٱلآثِمِينَ } أي إن كتمنا. وقرىء لَمِلاْثِمِين بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها.

{ فَإِنْ عُثِرَ } فإن اطلع. { عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً } أي فعلا ما أوجب إثماً كتحريف. { فَآخَرَانِ } فشاهدان آخران. { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ } من الذين جنى عليهم وهم الورثة. وقرأ حفص «استحق» على البناء للفاعل وهو الأوليان. { ٱلأَوْلَيَانِ } الاحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي: هما الأوليان أو خبر { ءَاخَرَانِ } أو مبتدأ خبره آخران، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان. وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم «الأولين» على أنه صفة للذين، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم. وقرىء «الأولين» على التثنية وانتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان. { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَـٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَـٰدَتِهِمَا } أصدق منها وأولى بأن تقبل. { وَمَا ٱعْتَدَيْنَا } وما تجاوزنا فيها الحق. { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الواضعين الباطل موضع الحق، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى. إذ روي أن تميماً الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب فغيباه، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإِناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا } الآية، "فحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما" ، ثم وجد الإِناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا: قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { فَإِنْ عُثِرَ } فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه. ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة.

{ ذٰلِكَ } أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد. { أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا } على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها { أَوْ يَخَـٰفُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَـٰنٌ بَعْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } أن ترد اليمين على المدعين. بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم. { وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ } ما توصون به سمع إجابة. { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوماً فاسقين { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. فقوله تعالى:

{ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } ظرف له. وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم، أو منصوب بإضمار اذكر. { فَيَقُولُ } أي للرسل. { مَاذَا أَجَبْتُمُ } أي إجابة أجبتم، على أن ماذا في موضع المصدر، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد ولذلك { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا } أي لا علم لنا بما لست تعلمه. { إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم. وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة. وقرىء { علام } بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله { إِنَّكَ أَنتَ }، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء. وقرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع.